أدب فتوى الدفاع المقدسة
حينما يُفرَدُ المُثنى .. على صَهوةِ الشهادة
2017/09/16
(سيرة شهيد )
تحتَ ظلِّ شجرة الدفاع الكفائي المقدس نتفيء أمناً وعزةً وكرامةً ، ونقطفُ ثمرةَ الإنتصارِ المغمسةِ بالإباء ، ونطالعُ على جذعها مسلاتَ خلودٍ نقشها أربابُ الجمالِ بإزميلٍ دامٍ ، وفي هذا التكوين الخلاق نقرأ عنواناً مضيئاً بالشهادة يشعُ غيرةً وحميّة إنه الشهيد ( مثنى عباس آل مسافر) ..
رغم ترافةِ شبابهِ وسنواتهِ العشرينيةِ الغضّة التي درجتْ بين نخيل " المسيّب" ونهلتْ من شط فراته ماء العزة والعنفوان ، أبى إلا أن يزاحمَ بمنكبيهِ حشود الغيارى الرابضين على سواتر الشرف ، ملتحقاً بركب الفتوى الخالدة ، متنقلاً بين محافظات وطنه الحبيب كقربةٍ عباسيةٍ طافحةٍ بالغيرةِ والشهامة .. يهبُ هذه الأرض العطاش من ماء روحه ، لتورقَ شجرة الحياة وتُزهرُ وجوه المشردين والأطفال بابتسامةٍ يانعة .
فلم يذرْ ذلك المثنى الهمام معركةً إلا واقتحمَ لهواتها ، مذيقاً أعداءه مرَّ كفاحهِ ونار سلاحه ، ليخرج منها معطراً ببارود الفخرِ وعبقِ النصرِ ، فحفظتْ الأرض وقع أقدامه الخصب فكانتْ تميدُ احتفاءً بقدومه ، أما هو فقد رسم لها خارطةً على شغافِ قلبه ، عكستْ عمق هذا العشق المفرط ؛ ولأنَّ الأرض لا تجيد اللثم كانت تهبُ له أيقونات محبتها لتحفر على جسده الطُهر وشماً مجنوناً ؛ فقد أهدته الرمادي شظيةَ وجدٍ في عمودهِ الفقري ، وألبستهُ الفلوجة وشاحَ رصاصٍ زاهرٍ على كتفهِ الأيمن .
وعند سماعه واعيةَ الموصل السبيّة واستغاثة ربيعها المُستلب ، لم يُطقْ صبراً ، ففار الدم في عروقه وارتعد حمية واباءً ، لينطلق كأسدٍ باسل مع فتية آمنوا بربهم فغسل قلوبهم بماء هدايته .. حتى رأوا الموت سعادةً والحياة مع الظالمين برماً وذلة ، فجابوا شوارع الموصل وأزقتها يمشطون جدائلها بأضلاعهم ، وينفخون في بيوتها من أرواحهم ، ويغسلون وجهها بماء الحياة ، مع كل بيتٍ يُحرر كانت تعتريهِ فرحةٌ غامرةٌ كتلك التي ملأت جوانحهُ يوم زفافهِ قبل ثلاثة أشهر مضتْ ، ونشوةُ الأبوّةِ تبدو على محياه وهو يرى ملامح بِكرهِ المرتقب في عيون الأطفالِ الذين يُلقمهم حلوى الخلاص من داعش وإجرامها ..
بعد يومٍ جهاديٍّ جهيدٍ نجحوا فيه بتحرير مجموعةٍ كبيرةٍ من شوارعِ حي الميثاقِ بأزقتها من عصابات التكفير ، وإجلاء المدنيين عبر ممراتٍ آمنةٍ ، وبعد أن أسدلَ عليهم الليلُ جلبابَ ظلامه قرر رجال الله ان يخيّموا ليلتهم في احدى الدور المحررة على ان يستأنفوا تحرير ما تبقى منها عند صبيحةِ اليوم التالي..
ثقيلةٌ هي ساعات الرِباط التي مرَّتْ في ذلك البيت المظلم إلا من نورِ وجوهِ المجاهدين وقلوبهم العامرة بتقوى الله ... ملأ الترقبُ أجنحة المكان ولم يقطعْ حبل الصمت سوى تمتمةٌ خافتةٌ لدعاءِ أهل الثغورِ مازجها البرد باصطكاكِ أسنانهم الذي لم يفتّ بعضد سباباتهم الممتطية صهوة الزناد بشكيمةٍ تامة !!
فجأة .. تناهتْ الى مسمعِ مُثنى صرخاتُ استغاثةٍ واستنجادٍ من الجهة المقابلة الخاضعة لسيطرة العدو ، وأدرك من كلماتهم المشُوبةِ بالبكاء أنهم مجموعة من الأطفال المحاصرين في واحدٍة من تلك الدور، وهنا فهم أن الأمر هو إحدى اثنتين لا ثالث لهما ؛ إما أن الأطفال قد تاهوا في زحمةِ جَلاء المدنيين فعلقوا هناك ، او أنه مخططٌ خبيثٌ وكمينٌ ماكرٌ يستدرجهم العدو من خلاله ، وبين هذه وتلك جالت الحسابات في حلبة فكره سريعاً ليقطعها بمُدية قرارهِ الشجاعِ النابعِ من نخوةٍ فراتيةٍ أصيلةٍ أججتها تلك الصرخات التي ايقظت في داخله نداءات العطش .. العطش .. ذات طفٍ قائظ . وليخرجَ ممتطياً صهوةَ غيرته ، متنكباً سلاحَ عقيدته
قاصداً هؤلاء الأطفال بالرغم من لائمةِ رفاقه ، ونهي قادتهِ العسكريين خشيةَ الخطرِ المحدقِ به ..
مجنونةٌ هي الدقائق التي استغرقها في الوصولِ الى ذلك البيت .. يدخلهُ بحذرٍ واجمٍ فيجد ثلاثة أطفال ..رمقهم بابتسامةٍ حانيةٍ تبعثُ الأملَ والطمأنينة.. وضمهم الى صدره وهو يحدثهم عن أنواع اللعب والحلوى التي تنتظرهم في البيت المقابل ، حمل إثنين منهم على عاتقيه بينما تدلّى ثالثهما على ظهرهِ متشبثاً بتلابيبه ، ولكزَ جواد همته نحو ضفاف الحياة لهذه النوارس البيض ، مستمتعاً بضحكاتهم البريئة التي أبتْ الوحوش لها إلا الخرس ... بضعة أمتارٍ نبتتْ فيها أزاهير الأمل بالنجاة ، تلك التي تفصلهم عن عتبةِ الخلاص ، بيدَ أن مناجل الموتِ عجّلت بحصدها بقُنبرةِ هاونٍ آثمةٍ ، صعدتْ بأرواحهم الطهر الى بارئها ،أما فارسنا فلم يترجّل أبداً !! بل أكملَ مبتسماً على بُراق الشهادة طريقهُ الى الجنّة .

من المقالات المشاركة في المسابقة التي اقامتها العتبة العباسية المقدسة في مهرجان فتوى الدفاع المقدس بنسخته الثانية
الكاتب / عقيل عبد الحسن جاري إسماعيل الحمداني