أدب فتوى الدفاع المقدسة
ذكريات الجنان في معارك الشجعان
2019/03/09
المصدر : باقر جميل / كتابات في الميزان
في يوم من الأيام صار حديث متبادل بين الجنان ، حديث يخص اهل الأرض ويرتبط باهل الجنان فقالت جنة الفردوس مخاطبة جنة عدنٍ وبحضور جنة الخلد :

منذ وفاة هابيل من قبل قابيل ظلما وعدوانا ، ونحن نستقبل أحبائنا الشهداء في سبيل الحق والحقيقة والدين ، وكنا وما زلنا نشتاق لهم كاشتياق يعقوب ليوسف (عليهم السلام) ، فقالت(جنة عدن) لجنة الفردوس و جنة الخلد وهي تقول لهما :

حدثاني عن أحداث عام (2014) التي حصلت في العراق ، وما هي المواقف التي شدت أذهانكم اليها ، وتعجبتم منها ؟

فكان الجواب : ولماذا هذه الفترة بالتحديد ..؟

قالت جنة عدن : لان الذي شاهدناه وسمعناه منهم قل نظيره تماما ، والصورة التي سطروها كبيرة وعظيمة ، أقل ما يقال عنها بأنها اعجوبة من عجائب التضحية والفداء للدين والوطن ، ولذلك أنا الان في وضوح مستمر في سبب جعل ادم وولده خلفاء على الأرض .

قالت جنة الفردوس : نعم , هم يستحقون أن نعيد ذكراهم مرة أخرى لهذا فأصنتي يا أختي :

في ذات ليلة من ليالي الدنيا والبشر فيها يتقلبون يمينا وشمالا، اذ هب صوت خفي صك مسامعي أنا و جنة الخلد ، صوت ليس من أصوات السماء ، ولكنه أرفع من أصوات أهل الدنيا الباقية ، التفت الى جنة الخلد وسألتها بغرابة :

ما هذا الصوت الذي دخل قلبي وتملكه ؟ هل هناك من خطب في دار الدنيا ؟

ركزت جنة الخلد لصوت اهل الدنيا جيدا , وإذ بها تنادي جنة الفردوس وبملامح ممزوجة من الحزن والسرور معا !

يا فردوس ، أبشري سوف نستضيف عددا كبيرا من الشهداء هذه المرة .!

فقالت الفردوس بتمعن : شهداء ..؟! وما الذي حصل يا جنة الخلد ؟ قولي ماذا يحدث الان في دار الدنيا ..؟

قالت جنة الخلد وهي تأن من شعورها الممزوج بالفرح والحزن بآن واحد :

لقد دنوت من بقعة لنا في الأرض موجودة في منطقة تسمى (كربلاء) والتي فيها قبر شيد الشهداء ، أن مرجعهم الاعلى وهو السيد السيستاني قد أعلن فتوى بالجهاد الكفائي ، وذلك ليذود عن حرم العراقيين والعراقيات من هجمة قوية من قبل مجموعة تبرأء منها كل البشر والإنسانية .

تهلل وجه الفردوس بهذه الكلمات وقالت :

هلمي بنا يا جنة الخلد لكي نحيط بالأمر خبرا ، ولنتزود من التفاصيل الدقيقة ، ولنرى ما سنقدمه لهؤلاء الثلة الطيبة من نعيم دائم .

دنت الفردوس من منطقة كربلاء وإذ بها تسمع هذا النداء الذي بدأ يسري بها كمسرى الدم في عروق الإنسان على لسان ممثل المرجع الأعلى وهو يقول :

(وإن من يضحي منكم في سبيل الدفاع عن بلده وأهله وأعراضه، فإنه يكون شهيداً) .

صاحت بصوت ملئه الحنان والرحمة ، هنيئا لمن يستجيب لهذا النداء ، ولو علم البشر بما نقدمه لهم عندما يكونوا عندنا لما بقي منهم واحدا أبدا إلا ويريد الالتحاق بنا ، لذلك يا جنة الخلد ، لا تدخري أي جهد في تزيين الغرف العاليات ، والأرائك المتكآت لمن يلبي النداء ، ويلتحق بركب الشهداء .

وبدأ استقبالنا لهذه الثلة من الشهداء تباعا ، فكان منهم الصغير والكبير ، والهرم والمريض ، وهم يتسابقون للمنية كتسابق الطيور على أعشاشها بعد الاغتراب .

ودارت المعارك الشرسة بقوة ، والتحم الفريقان ، هذا والعراقيون أبلوا بلاء عجيبا في الجهاد ، لم نكن نتوقع هذه التضحيات إلا في كربلاء الحسين عليه السلام، حتى نزلنا ذات مرة لإحدى المعارك فوجدنا مجاهدا قد لفت انتباهنا بشدة وهو الشهيد (خليل بن ابراهيم الجليحاوي) ، حتى شاهدنا منه العجب العجاب ، انه يبحث عن منيته ليل مع نهار ولا يهدأ أبدا ، حتى ان منيته قد أخذت منه أخاه وعينه ويده !

لكنه يصر أن ياتي الينا ، وفعلا حقق مراده بصورة فريدة .

هنا بانت الرقة والعطف على جنة عدن وهي تقول : هل فعلا ما يقوم به هؤلاء نابع من حبهم للدين والوطن ..؟ اننا لم نرى هذه العزيمة والهمة إلا نادرا ، وتوقعنا اننا لن نجد مثل شهداء كربلاء عندما يتسابقون على المنية ، فهم والله الان يتسابقون على مناياهم بصورة فريدة ونادرة .

قالت جنة الفردوس لجنة عدن : لا تستغربي هكذا ، فسأذكر لك حادثة أخرى عن شخصين كريمين ، وكنا نراقبهم في ساحات الجهاد بصورة كثيرة ، فشاهدنا أشياء تزيدك غرابة وغبطة .

فقالت جنة عدن : ماذا تقولين ؟ وهل هناك من أمثال خليل ابراهيم بكثرة ..؟

قالت نعم ، قالت جنة عدن : ومن هم ؟

قالت جنة الفردوس : لا أستطيع ان أعدهم لك، لكن كما قلت لك سأذكر لك مشاهد من شهيدين كريمين وهما :

الشهيد السيد عبد الرضا الفياض ، والشهيد الشيخ مشتاق الزيدي .

فقد استشهد الشيخ مشتاق الزيدي في منطقة (البو حشمة ) وهي منطقة تابعة لقضاء ( بلد )التابع لمحافظة صلاح الدين ، في يوم (25/12/2014) ، ولا أحدثك يا جنة عدن عن روحه القتالية والاخوية التي كان يحملها ، فكان بحق مصداقا للآية الكريمة (أشداء على الكفار رحماء بينهم) ، حتى قبل استشهاده دنونا منه وصرنا نتحدث عن ان يومه الاخير يكون في تحرير منطقة( يثرب ) ، فصار يُحدث كل من يلتقيه أن اللقاء بالجنان وخالقها سيكون هنا ان شاء الله (أي في منطقة يثرب)، وانه لن يخرج منها حتى تتحرر أو يستشهد في سبيل تحريرها ، وبالفعل نال شرف الشهادة بتلك المنطقة ، هذا كله والسيد عبد الرضا ينظر له عند استشهاده ودموعه تجري على خديه حزنا وغبطة لما ناله الشيخ الشهيد ، وكان يتمنى ان يكون قد استشهد هو الاخر بأسرع وقت ممكن ، لكنه تأخر قليلا عنا ، وبقينا في انتظاره كثيرا ، حتى كاد اليأس ان يصل الينا من عدم قدوم السيد عبد الرضا الفياض ، بعدما جهزنا له الجنان ومن فيها لاستقباله ، ولتعويضه عما لاقاه من تعب وارهاق ، ولكن ما زال ينادي بكثرة ان الفرصة هاهنا فقط ، هنا الخير كله ، هنا الفوز كله ، هنا الجنة والرضوان ،هنا السعادة والأمان .

الى ان جاءت لحظات حاسمة من المعارك كما هي في المرات الماضية ، وبالتحديد في يوم الاثنين المصادف 29 من شهر محرم الحرام لعام 1438 للهجرة المباركة ، وفي تحرير مناطق غرب الموصل ، خاض السيد الفياض معركة شرسة مع عصابات داعش ، صار العجب يأخذ مأخذه منا من شدة شجاعته وبسالته ، وكان بمعية زميله الشهيد الشيخ جعفر المظفر ، فما زالوا يقاتلون حتى جاء الفوز العظيم لهما وسقطا تباعا في مكان واحد وساعة واحدة .

لقد دهشنا من شدة الحزن وكذلك غمرتنا الفرحة بنفس الوقت لقدومهما الينا ، إلا انهم من الرجال الذي يقل نظيره في هذه الدنيا ، تركوا الاولاد والاخوة ، وتركوا الدنيا وملذاتها في سبيل أن يجري دمهم في تراب هذا الوطن ، كما مزجتها دماء أهل البيت عليهم من قبل ، ولا أظن ان السيد عبد الرضا نسي سبايا أهل البيت عندما مروا في مدينة الموصل ، لذلك كان كثير الذكر لأهل البيت في المعارك وهذا حال الكثيرين منهن ، حيث اننا وجدناهم ينصبون المآتم الحسينية وهم تحت أزيز الرصاص ..! عجبا ! ماذا فعل بهم سيد الشهداء حتى ذابوا فيه هكذا ؟ وماذا شاهدوا من اليقين حتى صارت عندهم كل هذه العزيمة والهمة ..؟!

هكذا كانت شجاعتهم ، وبسالتهم ، وعقيدتهم ، وحبهم الذي لا يوصف لسيد الشهداء ولما جرى على أهل البيت عليهم السلام ، لقد كانت الملائكة تسأل عن سبب خلق آدم وولده ، ولحد الآن نرى الإجابات بكل وضوح ، ان بني آدم فيهم من هو أكرم على الله من جميع خلقه ، وان يستحق وبجدارة ان نكون بخدمته الى أبد الآبدين .