المرجعيةُ الدينيةُ العُليا تؤكّد على الحكومة العراقية بأن تبذل جهداً أكبر في تنظيم أمور المتطوّعين فلهم دَيْنٌ كبير ليس فقط على العراق وشعب العراق بل على المنطقة برمّتها..
أستمع للخطبة
شاهد الخطبة
نص الخطبة
"إنّ القراءة الواقعية والمنطقية لأحداث المنطقة وما يُلاحظ من توسّع عصابات داعش في بعض المناطق واستمرار جرائمها الوحشية المنافية لكلّ القيم الدينيّة والإنسانية وآخرها ذبح المواطنين المصريّين الأقباط الأبرياء، تدلّنا بكلّ وضوح على ما كان يمكن أن يصل اليه وضع العراق والمنطقة برمّتها لولا الفتوى التاريخية للمرجعية الدينية وما أعقبها من حضورٍ كبير للمتطوّعين في جبهات القتال.
والمطلوب من القيادة العامة للقوّات المسلحة والقيادات الأمنية وبقية مؤسّسات الدولة المعنيّة تقديم جهدٍ استثنائيٍّ وعاجل لمنع حصول مأساةٍ بحقّ أبناء ناحية البغدادي، ونؤكّد استعدادنا في العتبات المقدسة للمساهمة في جهود الإغاثة إذا وفّرت أجهزة الدولة الآليات المناسبة لإيصال مواد الإغاثة والدواء اليهم".
جاء ذلك خلال الخطبة الثانية لصلاة الجمعة (30ربيع الثاني 1436هـ) الموافق لـ(20شباط 2015م) التي أُقيمت في الصحن الحسينيّ الشريف وكانت بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي وقد ذكر فيها:
"أيّها الإخوة والأخوات أودّ أن أعرض على حضراتكم الأمور التالية:
الأمر الأوّل:
نقرأ فيه بعضاً آخر من التوصيات والتوجيهات التي صدرت من سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني(دام ظلّه الوارف) للمقاتلين والمجاهدين في جبهات القتال ممّا لم يُذكر في الخطبة السابقة، وأودّ أن أبيّن قبل أن أقرأ بعضاً من هذه التوصيات أنّ للجهاد أحكاماً وآداباً عامة لابُدّ من مراعاتها حتى ينال المجاهد والمقاتل رضا الله تعالى وهو الهدف الأوّل.
أوّلاً: أيّها الإخوة والأخوات لا يقول البعضُ إنّني لست حاضراً في هذه الجبهات فهذه التوصيات لا تعنيني، أبداً.. انظروا وتأمّلوا فيها فإنّ الكثير منها تعني جميع المؤمنين والمسلمين، لأنّ فيها توصياتٍ عامة ومنها توصياتٌ بأجمعها للمقاتلين والمجاهدين، ومنها توصياتٌ لعموم المؤمنين والمسلمين، وما سأقرأ بعضاً منه تدبّروا فيه وتأمّلوا فيه فإنّ كلّ إنسانٍ معنيٍّ به، منه كما في الوصية الأولى تعرّضٌ لقتل النفس البريئة، إنسان عادي قد -لا سمح الله تعالى- يقوم بقتل نفس ممّا حرّم الله سفك دمها، كما يحصل في كثيرٍ من الحوادث، ومنه التعرّض للآخرين في دينهم وانتهاك حرماتهم وغير ذلك من الأمور التي تعني الجميع، لذلك ينبغي الالتفات اليها والتأمّل فيها والتفكّر فيها والاعتناء بشأنها والعمل على تطبيقها لكي ننال جميعا رضا الله تعالى الذي هو هدف المؤمنين الأوّل، نقرأ بعضاً من هذه التوصيات:
الله.. الله في النفوس فلا يستحلنّ التعرّض لها بغير ما أحلّه الله تعالى في حال من الأحوال فما أعظم الخطيئة في قتل النفوس البريئة، وما أعظم الحسنة بوقايتها وإحيائها كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وإنّ لقتل النفس البريئة آثاراً خطيرة في هذه الحياة وما بعدها، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) شدّة احتياطه في حروبه في هذا الأمر، وقد قال في عهده لمالك الأشتر -وقد عُلِمت مكانتُهُ عنده ومنزلتُهُ لديه-: (إيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها فإنّه ليس شيءٌ أدعى لنقمة وأعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدئٌ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوينّ سلطانك بسفك دمٍ حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لأنّ فيه هود البدن -يعني القصاص-، وقد كان من سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه كان ينهى عن التعرّض لبيوت أهل حربه ونسائهم وذراريهم رغم إصرار بعض من كان معه -خاصّةً من الخوارج- على استباحتها وكان يقول: (حارَبَنا الرجالُ فحاربناهم فأمّا النساءُ والذراري فلا سبيل لنا عليهم لأنّهنّ مسلماتٌ وفي دار هجرة فليس لك عليهن سبيل، فأمّا ما أجلبوا عليكم واستعانوا به على حربكم وضمّه عسكرهم فهو لكم وما كان في دورهم فهو ميراث على فرائض الله تعالى لذراريهم، وليس لكم عليهنّ ولا على الذراري من سبيل) هذه التوصية مهمة للمقاتلين وكذلك لعامّة الإخوة.
ثانياً: الله.. الله في اتّهام الناس -وهذه وصيةٌ مهمة للمقاتلين ولكم- الله.. الله في اتّهام الناس في دينهم نكاية بهم واستباحةً لحرماتهم كما وقع فيه الخوارج في العصر الأوّل وتبعه في هذا العصر قومٌ من غير أهل الفقه في الدين، تأثّراً لمزاجياتهم وأهوائهم وبرّروه ببعض النصوص التي تشابهت عليهم، فعظم ابتلاء المسلمين بهم، وما ترونه من الجرائم أعظمُ شاهد على ذلك، واعلموا أنّ من شهد الشهادتين كان مسلماً يُعصم دمُهُ ومالُهُ وإن وقع في بعض الضلالة وارتكب بعض البدعة فما كلّ ضلالةٍ بالتي توجب الكفر، ولا كلّ بدعةٍ تؤدّي الى نفي صفة الإسلام عن صاحبها، وربّما استوجب المرء القتل بفسادٍ أو قصاص وكان مسلماً، وقد قال الله سبحانه مخاطباً المجاهدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) واستفاضت الآثارُ عن أمير المؤمنين(عليه السلام) نهيه عن تكفير عامّة أهل حربه كما كان يميل اليه طلائع الخوارج في معسكره، بل كان يقول: (إنّهم قومٌ وقعوا في الشبهة وإن لم يبرّرْ ذلك صنيعهم ولم يصحّ عذراً لهم في قبيح فعالهم).
ثالثاً: الله.. الله في أموال الناس فإنّه لا يحلّ مالُ امرئٍ مسلمٍ لغيره إلّا بطيب نفسه، فمن استولى على مال غيره غصباً فإنّما حاز قطعةً من قطع النيران، وقد قال الله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)، وفي الحديث عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (من اقتطع مال مؤمنٍ غصباً بغير حقّه لم يزل الله مُعرِضاً عنه ماقتاً لأعماله التي يعملها من البرّ والخير لا يثبّتها في حسناته حتى يتوبَ ويردَّ المال الذي أخذه الى صاحبه) وجاء في سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه نهى أن يستحلّ من أموال من حاربه إلّا ما وجد معهم وفي معسكرهم ومن أقام الحُجّة على أنّ ما وجد معهم فهو من ماله أعطى المال إيّاه، ففي الحديث عن مروان بن الحكم قال: لمّا هَزَمَنا عليٌّ في البصرة ردّ على الناس أموالهم، من أقام بيّنةً أعطاه ومن لم يقمْ بيّنةً أحلفه.
رابعاً: الله.. الله في الحرمات كلّها فإيّاكم والتعرّض لها أو انتهاك شيءٍ منها بلسانٍ أو يد، واحذروا أخذ امرئٍ بذنب غيره، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...) ولا تأخذوا بالظنّة وتشبّهوه على أنفسكم بالحزم فإنّ الحزم احتياطُ المرء في أمره والظنّة اعتداء على الغير بغير حجّة، ولا يحملنّكم بغضُ من تكرهونه على تجاوز حرماته كما قال الله سبحانه: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى...)، وقد جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال في خطبة له في وقعة صفين من جملة وصاياه: (ولا تمثّلوا بقتيل وإذا وصلتم الى رجال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلّا ما وجدتم في معسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم..) لاحظوا أيّ خُلُقٍ عظيمٍ هذا الذي يدعونا اليه أميرُ المؤمنين(عليه السلام).
خامساً: وكونوا لمن قبلكم من الناس حماةً ناصحين حتى يأمنوا جانبكم ويعينوكم على عدوّكم، بل أعينوا ضعفاءهم ما استطعتم، فإنّهم إخوانكم وأهاليكم، واشفقوا عليهم فيما تشفقون في مثله على ذويكم، واعلموا أنّكم بعين الله سبحانه يُحصي أفعالكم ويعلم نيّاتكم ويختبر أحوالكم.
الأمر الثاني:
ما يزال رجالُ القوّات المسلّحة ومن التحق بهم من المتطوّعين يسطّرون صفحاتٍ مشرقة من ملاحم التضحية والفداء والبطولة، حيث يُقدّمون أرواحهم قرابين في سبيل تخليص البلد من شرّ ودنس عصابات داعش الإرهابية، إنّ المسؤولية الوطنية والشرعية والأخلاقية تقتضي من جميع الأطراف العراقية سواءً كانت كتلاً سياسية أو جهات دينية أو ثقافية أو إعلامية أو غير ذلك أن تقدّر وتثمّن عالياً تضحيات هؤلاء الأبطال، لاسيّما أنّ الكثير منهم تركوا عوائلهم وأطفالهم تحت ظروفٍ قاسيةٍ وصعبة، حيث لا يملكون في كثيرٍ من الأحيان ما يوفّر لهم العيش الكريم ومنهم من ضحّى بشهيدين وثلاثة من عائلةٍ واحدة مع بقاء بقية رجال العائلة يُشاركون في القتال، والبعض الآخر ترك تجارته وعمله ودراسته مضحّياً بالدنيا وما فيها من أجل المشاركة في الدفاع عن شعب العراق ومقدّساته، لاحظوا إخواني قدّروا حالنا لو أنّ عصابات داعش لولا هذه التضحيات وصلت الى مدننا ماذا كان يحصل؟ هذه الجرائم التي تشاهدونها من حرق الأحياء وذبح الرجال وسبي النساء واغتصاب النساء، هذه التضحيات هي التي حمت مدننا وحمت وطننا وحمت مقدّساتنا وحمت أعراضنا فأيّ تقديرٍ نقدّمه لهؤلاء لا يكفي أيّ تثمينٍ نقدّمه لهؤلاء لا يكفي، لولا هذه التضحيات لكنّا مثل حال الكثير ممّا يجري الآن وتشاهدونه في الوسائل الإعلامية من هذا الانتهاك للأعراض وتدمير المقدّسات وقطع الرؤوس والحرق للرجال أحياء، هكذا علينا أن نقدّر هذه التضحيات، إنّ القراءة الواقعية والمنطقية لأحداث المنطقة وما يُلاحظ من توسّع عصابات داعش في بعض المناطق واستمرار جرائمها الوحشية المنافية لكلّ القيم الدينيّة والإنسانية وآخرها ذبح المواطنين المصريّين الأقباط الأبرياء، تدلّنا بكلّ وضوح على ما كان يمكن أن يصل اليه وضع العراق والمنطقة برمّتها لولا الفتوى التاريخية للمرجعية الدينية وما أعقبها من حضورٍ كبير للمتطوّعين في جبهات القتال، ورفع معنويّات الجيش وسائر القوى الأمنية والتضحيات العظيمة التي قدّموها خلال الأشهر الماضية، ويُضاف اليها تضحيات هؤلاء الأبطال الذين ندينُ لهم جميعاً بما نحن عليه الآن من حماية مقدّساتنا وحماية أعراضنا من هذه الجرائم الوحشية، مهما نقدّم لهؤلاء الأبطال لا نوفّي شيئاً يسيراً من تضحياتهم وقتالهم، فلهم علينا دَيْنٌ كبير ليس فقط على العراق وشعب العراق بل على المنطقة برمّتها، لولا هذه التضحيات لكان الحال لا يعلمه إلّا الله تعالى الى أيّ مكانٍ سيصلون اليه، لقد أشدنا كثيراً ولا زلنا نشيد بجهود وتضحيات هؤلاء الأعزّة الأبطال وفي الوقت نفسه نؤكّد على الحكومة العراقية بأن تبذل جهداً أكبر في تنظيم أمورهم وتمنع أيّ تصرّف مسيء يُمكن أن يصدر من بعض العناصر غير المنضبطة وهم قلّة بكلّ تأكيد.
الأمر الثالث:
يُناشد الكثير من رجال الدين وشيوخ العشائر ووجهاء ناحية البغدادي الأجهزة الأمنية والوزارات المعنية للتدخّل السريع وإنقاذ أهالي الناحية وخصوصاً المجمّع السكني من كارثةٍ إنسانية بسبب حصار عصابات داعش الإرهابية لها، وإمكان تعرّض المئات من المواطنين الأبرياء للقتل والذبح إضافةً الى معاناة أهاليها من نقصِ الغذاء والدواء، فالمطلوب من القيادة العامة للقوّات المسلحة والقيادات الأمنية وبقية مؤسّسات الدولة المعنيّة تقديم جهدٍ استثنائيٍّ وعاجل لمنع حصول مأساةٍ بحقّ أبناء هذه الناحية، ونؤكّد استعدادنا في العتبات المقدسة للمساهمة في جهود الإغاثة إذا وفّرت أجهزة الدولة الآليات المناسبة لإيصال مواد الإغاثة والدواء اليهم.