أدب فتوى الدفاع المقدسة
الشّهيدُ السّعيدُ حسين جميل حميد المياحيّ
2023/07/17
الشّهادةُ مفهومٌ قرآنيٌّ إسلاميٌّ عظيمُ، ومِن طُرق اللهِ العظمى، بل مِن أقرب الطرق للوصول إلى الله تعالى، فالشّهادةُ نتيجةٌ طريقُها الجهاد، والجهادُ وسيلةٌ وصفها أميرُ المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالبٍ(عليه السلام)، بأنّها بابٌ فتحَهُ لخاصّة أوليائه ، فهي درجةٌ خاصّةٌ لا ينالها إلا مَن اختاره الله لها.
وللشّهادة مقدّماتٌ مادّية ومعنويّة لابدّ لطالبها مِن إحرازها، فالسّلوكُ الإيمانيُّ والفطرة الطيّبة والاندفاع في خدمة النّاس، وسائلُ ضروريّة ينبغي أن يتحلّى ويتّصف بها طالب هذه الدّرجة، والمتصفِّح سيرةَ شهيدها الكريم - الذي نُسطّر هذه الكلمات والسّطور المتواضعة للحديث عن ملامحه وعالمه الخاصّ وشهادته- يجدُها عطرةً بعبَق الخِصال الكريمة والمزايا الحميدة، و سيجدُ- أيضاَ- الصّفات التي قدّمناها طافيةً على ملامح شخصيّته، التي لا يشكُّ المتأمّلُ بأنّ هذه العزيمة لابدَّ أن تقودَ صاحبها إلى تلك الدّرجة الكريمة.
من أجل الولوج إلى هذه الشخصيّة لابدَّ لنا أن نتعرّف هويّتها وسيرتها الذاتيّة، فالشّهيدُ (حسين جميل حميد خليل المياحيّ) من مواليد (1986م)، ولد في البصرة الفيحاء، قضاء شطّ العرب، الجزيرة الثانية، تربّى وترعرع في هذه المنطقة الغَنّاء الخِصبة بالأراضي الزراعيّة والبساتين الطيّبة التي انعكس طيبُ نسيمِها وعَبَق تربتِها على أرواح سكّانها الذين طابت أرومتُهم وزكت نفوسُهم.
عاش الشّهيد تحت كنفِ أبويه الكريمين ورعايتهما، والدُه جميل حميد خليل ورَّثَه الحياةَ الطيّبةَ والكريمةَ، والعزّةَ والإباءَ، فهو مِن شهداء الانتفاضة الشعبانيّة عام(1991م)، إذْ شارك فيها مع أخويه عبد الستّار جميل وعبّاس جميل، وكان مندفعاً مقداماً عُرف بالسّيرة الإيمانيّة المعهودة، وكان حانقاً على النظام السّابق، رافضاً عنجهيّتِه، فكان من أوائل المبادرينَ عند اندلاع الانتفاضة، وقد استُشهد(رحمه الله) في منطقة كرمة علي بعد دخول قوّات النظام، إذْ شكّل مع زملائه مجموعةً مسلّحةً للتصدّي لهم، واتخذت من مسجد الفيحاء مقرّاً لها، وبعد المناورة والجهاد استُشهد، ولم يعثر ذووه على جثّته، إذْ أخذها الفيلق الثالث، فبقي قبرُه في قلوبِ ذويه.
مِن نميرِ هذه السّيرة اغترف الشّهيدُ حُسين، فعلى الرّغم من أنّه لم يُكمل مرحلته الدراسيّة الابتدائية؛ لأنّ أهله قد هاجروا إلى إيران بعد شهادة والده، إلا إنّه اكتسب منه صفاتٍ كريمةً كانت مقدّمةً لنيله وسام الشهادة، فضلاً عن تأثّره بتربية ابن عمِّه الشيخ حميد عبّاس الذي كان من طلبة العلوم الدينيّة وكان الشّهيد مصاحباً له، فكان السّخاء ونقاء الضّمير وعدم الحِقد على الآخرينَ ولمَن أساء إليه صفاتٍ تحلّى بها، وتربّى عليها، ولحبِّ أهل البيت)عليهم السلام) الأثرُ الكبيرُ في قلبه، وكان يدفعُه دائماًَ إلى مساعدة النّاس على الرّغم من صِغَر سنِّه، إذْ يروي الشيخ حميد عبّاس حادثةً مؤثِّرةً تعكسُ هذا الخُلُق الرفيع، يقول:
((كنّا في أحد الأيّام ذاهبينَ إلى زيارةِ أحد المآتم لأقاربنا في النجف الأشرف، فكنّا ننتظر حُسين في أحد الأماكن، إذْ إنّه قد تأخّر عنّا، وبعد أن وصل بادرنا بالسّؤال عن سبب تأخّره فأجاب: إنّ أحد أقرباء سائق التكسي في المستشفى، و به حاجةٌ إلى الدّم فذهبتُ إلى المستشفى وتبرّعتُ له بالدّم...)).
استمر ّالشّهيد في الجهاد في جبهة تكريت - منطقة زلّاية، إذْ وُضعت عبوةٌ ناسفةٌ على جانب الطريق التي كان يسلكها مع زملائه، وكان محمّلاً بالسِّلاح والعِتاد، فانفجرت العبوةُ وتوقّفت السيّارة، وكان الإرهابيّون يترصّدونهم، فانهالوا عليهم بالرصاص، فأصابت الإطلاقات جميعَ أنحاء جسدِه، وأصابته شظيّةٌ في قفاه، ورصاصةٌ في يدِه، وامتلأ جسمُه بالشّظايا، إلا إنّه لم يُستشهَد حينها، بل نُقل إلى مستشفى الكاظميّة في بغداد، ثمَّ نُقل إلى مستشفى الموانئ في البصرة، وبقي فيها أقلّ مِن الشّهر بقليل.
كان الشّهيد في المستشفى ساكنَ الجَسد ما خلا لسانَه، الذي كان يردّد: «الحمدُ للهِ، فدوة لعليّ بن أبي طالب، والحمدُ للهِ الذي رزقني هذا الأمر»، وبقيت هذه الكلمة تتردّد على لسانه إلى حين استشهاده، وقدْ ارتأى الأطبّاء بعد تحسّن حالته الصحِّيّة نسبيّاً أنْ يُنقلَ إلى داره ليرتاح أكثر، فوُضِع على كرسيٍّ، فكان يقصدُ مجالسَ العزاء في المحرّم، وكان الأطباء يأتون إليه لمتابعة حالته الصحِّيّة، وفي يوم الحادي عشر من محرّم 1436هـ ، جاءت لجنةٌ طبِّيَّةٌ وكشفت عليه، فطلبت من أهلِه نقله إلى مستشفى بغداد، إذْ كانت إحدى الشظايا مستقرّةً في صدرِه، وكان عندما يسعل يخرج الدمُ منه، فنقلوه إليها، وأجرى لهُ الأطبّاءُ الفحوصات اللازمة، وأخذو له بعض الأشعّة، وأوصلوهُ إلى سريره، إلا إنّ الأجلَ كان قد حان، فانتقلَ إلى جوار ربّه شهيداً كريماً محتسباً بتاريخ (7/11/2014م).
كان الشّهيد حسين - كما ذكرنا- حسَن السّلوك والأخلاق، ومن صفاتِهِ البارزةِ تمسُّكُه بأهل البيت (عليهم السلام)، وكثرة زيارة مراقدهم المقدّسة، وخصوصاً في زيارة الأربعين، إذْ كان يقصد الإمامَ الحُسين)(عليه السلام) ماشياً على قدميه من البصرة، وكان هذا ديدنُه من ثمانيةِ أعوام.
وقد كان يتميّز بالشجاعة والإقدام كوالده، إذْ يُنقل عن زملائه في الجهاد أنّه قد ظهرت منه مواقفُ بطوليّةٌ كانوا يتعجّبون من صدورها عنه، ولبسالته وصلابته ترقّى في مرتبته العسكريّة، فمُنِح مرتبةَ رائدٍ في الحشد الشعبيّ.
وكان رؤوفاً ذا شفقةٍ، ومن رأفتِه وشفقتِه أنّه كان يذودُ عن راعي غنمٍ كان يرعى غنَمَه بالقرب من إحدى السيطرات الخاصّة بهم، ويمنعُهم من التعرّض إليه، والغريب أنّ هذا الراعي هو مَن وَضَعَ العبوةَ الناسفة على طريق سيّارة الشّهيد.
مضى الشّهيد حُسين تاركاً زوجةً وأربعة أطفال، «ولدين وابنتين»، علي أكبر، وجميل(على اسم والده)، ودعاء، وزينب، على الترتيب.
كان الشّهيدُ عندما يُسأل عن وصيّته يقول دائماً: «بمجرّد أن أقف على قدمي أعودُ إلى ساحات القتال»، وكان يُوصي ولده عليّاً الأكبر - الذي سمّاه تيمُّناً باسم عليّ بن الحُسين الأكبر(عليه السلام)؛ لأنّه ولد في التاسع من محرّم وهو اليوم المخصّص لعليٍّ الأكبر(عليه السلام)- كان يُوصيه أن يكونَ شهيداً ابنَ شهيدٍ ابنِ شهيد.
وعندما يُسأل: مَن لأهلِك وأولادِك إن عُدت إلى الجهاد واستُشهِدتَ؟
فكان جوابُه جواباً إيمانيّاً صُلْباً: الذي خلقَهم هو يتكفّلهم.
هكذا عاش الشّهيدُ حسين حياتَه، وهكذا استُشهِد، فللهِ هو مِن شهيدٍ مِقدام، وفذٍّ هُمام، طلّق الدّنيا ليلتحقَ بالرفيق الأعلى وجوار المصطفى وأهل بيتِه الأطهار(عليهم السلام).