حين آثر المسجد على بيته… حكاية زهدٍ قادت شيخًا إلى الشهادة
2025/12/22
بقلم - اكرم علي الداوودي
في ظهيرةٍ صيفيةٍ خانقة، حين كانت الشمس تُلقي بثقلها على الجدران وتُنهك الأرواح قبل الأجساد، قصدتُ بيت الشيخ الشهيد طعمة المرشدي. كان البيت بسيطًا حدّ الزهد، ساكنًا حدّ الطمأنينة، كأنّه يشبه صاحبه أكثر مما يشبه البيوت.
لفت انتباهي شيء واحد قبل أي شيء آخر:
لا مكيّف، لا سبلت، لا وسيلة تردّ عن المكان لفح القيظ، سوى مروحة قديمة متعبة تدور ببطء، كأنها تؤدي واجبها الأخير.
استغربت… فالرجل شيخ، ومثقف، وصاحب شهادة جامعية، بل وطالب دراسات عليا، ومع ذلك يعيش بهذا القدر من التقشّف. لم أحتمل المشهد، فقررت أن أهديه جهاز تبريد (سبلت)، علّه يخفف عنه قسوة الصيف.
مرت الأيام…
وفي زيارةٍ لاحقة، دخلت البيت ذاته، لكن المفاجأة كانت بانتظاري.
السبلت لم يكن هناك.
سألته بدهشة ممزوجة بالعتب:
– شيخنه، وين راح السبلت؟
ابتسم ابتسامته الهادئة التي لم تفارقه يومًا، وقال بصوتٍ خالٍ من أي ادّعاء:
– والله خوية، أعطيته للمسجد بصفي… المصلّين أحوج إله مني.
ساد الصمت.
لم أجد جوابًا، ولم أجد سؤالًا آخر.
كان الموقف أكبر من الكلمات، وأثقل من العتاب.
هذا هو طعمة المرشدي…
رجلٌ كان يرى الآخرين قبل نفسه، ويقيس حاجته بميزان الآخرة، لا براحة الجسد. لم يكن الزهد عنده شعارًا، بل ممارسة يومية، وسلوكًا صامتًا لا يحتاج إلى شاهد.
وحين نادته الأرض، لم يتخلّف.
ارتدى ملابسه البسيطة ذاتها، وخرج إلى ساحات الشرف، حتى استُشهد في عمليات غرب الموصل، كما عاش… نقيًّا، خفيفًا على الدنيا، ثقيلًا في ميزان الحق.
رحل وهو يمتلك علمًا وشهادة، لكنّه اختار أن يمتلك ما هو أثمن:
قلبًا يؤثر غيره على نفسه، وروحًا تعرف طريقها إلى الله.
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾
سلامٌ على روحه،
وسلامٌ على كل من تعلّم من سيرته أن العظمة لا تُقاس بما نملك، بل بما نمنح.