أدب فتوى الدفاع المقدسة
سيرة أدبية.. من مقاعد الجامعة إلى مواكب الخلود الشهيد مصطفى الغريباوي
2025/12/28
في سجلِّ الخالدين، حيث تُكتب الأسماء بالحبر الذي لا يجف، وتُسطَّر السِّير بمداد الدم الطاهر، ينهض اسم الشهيد السعيد مصطفى كريم عبد الغريباوي كنجمةٍ لا تنطفئ، وكحكايةٍ عراقيةٍ وُلدت من وجع اليُتم، وترعرعت في حضن العقيدة، واكتملت فصولها على ثرى الجهاد.
إنها سيرة رجلٍ لم يكن عمره معيارًا لوعيه، ولا حداثة سنّه حاجزًا أمام كِبر الرسالة، فاختار منذ نعومة روحه أن يكون حيث يكون الواجب، وحيث يُنادى الحق.
وُلد الشهيد مصطفى عام 1992 في مدينة الكوت، مدينة الصبر والنخوة، وهناك فتحت الحياة عينيها عليه يتيمًا، بعد أن فقد والده وهو في العاشرة من عمره. غير أن اليُتم لم يكسر روحه، بل صقلها، ولم يُطفئ جذوة الطموح في قلبه، بل زادها توهجًا. نشأ في عائلةٍ موالية لأهل البيت (عليهم السلام)، فكانت القيم الحسينية زاده اليومي، وكانت سيرة الشهداء أول كتابٍ يقرؤه بقلبه قبل عينيه.
منذ صغره، كان الجهاد هاجسًا يسكن وجدانه، وحلمًا يطارده في يقظته ومنامه. وفي زمن الاحتلال الأمريكي، حين كانت المواجهة شرسةً والطرقات محفوفة بالموت، كان مصطفى الطفل يتسلل بين أزقة حي الجهاد في الكوت، لا يحمل سلاحًا، بل يحمل قلبًا أكبر من عمره، يقدّم الطعام والشراب للمجاهدين، ويراقب الطرقات، متحديًا الخوف، ومستبقًا الخطر، وكأنه كان يتدرّب مبكرًا على موعدٍ كتبه الله له.

كبر مصطفى، لكن ذلك الطفل بقي فيه؛ الطفل الذي كان يقول لمن حوله بلا تردّد:
«أمنيتي… أن أنال الشهادة».
لم تكن كلمة عابرة، بل نذرًا مؤجّلًا، ظل ينتظر ساعته.
وحين هبّت رياح الغزو الداعشي، وتعرض العراق لأخطر امتحانٍ في تاريخه الحديث، كان مصطفى طالبًا في جامعة واسط – كلية التربية – المرحلة الأولى. مقعده الدراسي كان آمنًا، ومستقبله العلمي ممهورًا بالأمل، لكنه حين سمع نداء الوطن وفتوى الدفاع الكفائي، أدرك أن للزمن خيارًا واحدًا لا يقبل التأجيل. فترك الجامعة، وعلّق حلم الشهادة الجامعية، ليكتب شهادته الكبرى بالدم.
التحق بركب المجاهدين الأحرار في الحشد الشعبي المقدس، ضمن تشكيل كتائب الإمام علي (عليه السلام)، وهناك وجد نفسه في المكان الذي طالما حلم به. كان مقبلًا على القتال بروحٍ عطشى للقاء الله، لا يهاب الموت، بل يراه جسرًا نحو الخلود. وقد ترك في مذكرته الخاصة وصايا عديدة لأهله، كانت أبلغها وأصدقها وصيته لوالدته:

«أمي العزيزة، إذا رزقني الله الشهادة أريدك أن تصبري كما صبرت العقيلة (عليها السلام)، وأن تفتخري بولدك لأنه على طريق أبي الأحرار (عليه السلام)».

بهذه الروح الحسينية، خاض الشهيد مصطفى معارك الشرف ضد عصابات داعش الإرهابية، متنقلًا بين ساحات المواجهة، ثابت القلب، واضح الهدف، حتى جاء موعده الذي انتظره طويلًا.
في محافظة صلاح الدين – قضاء بيجي، وعلى أرضٍ تعمّدت بدماء الشهداء، ارتقى شهيدًا سعيدًا، مدافعًا عن العراق، وعن شعبه، وعن المقدسات، ليغلق آخر فصول حياته، ويفتح أول فصول خلوده.
لم يكن مصطفى مجرد رقمٍ في سجل الشهداء، بل كان مشروع وعي، وتجسيدًا حيًا لمعنى التضحية. ترك الجامعة، لكنه دخل التاريخ، وغادر الدنيا، لكنه سكن الضمائر، ومضى إلى ركب الشهداء، ليبقى شاهدًا على أن هذا الوطن لا يُحمى إلا بأمثاله.

سلامٌ على روحه يوم وُلد، ويوم جاهد، ويوم ارتقى، ويوم يُبعث حيًا.
صور من الخبر