الرحيل إلى العزّة.. حكاية الشيخ الشهيد خميس عبد الحسين
2025/10/11
_أكرم علي الداوودي
في زمنٍ اختلطت فيه الأصوات، وبقي النداء الحسيني هو الأصدق، خرج رجلٌ من الجنوب، من أرض النخيل والأنهار، يحمل في صدره نور المنبر الحسيني، وفي يده راية الجهاد، ليكتب بدمه سطوراً من الإباء لا تمحوها الأيام.
كان يؤمن أن الكلمة التي تهزّ القلوب على المنبر لا تكتمل إلّا حين تسندها الدماء في ساحة القتال، فجمع بين العمامتين: عمامة العلم وعمامة الشهادة.
من القرنة في محافظة البصرة وُلد الشيخ خميس عبد الحسين عبد المحسن الجاسم عام 1958، بين نخيلٍ شاهدٍ على الطفولة البريئة، وسماءٍ احتفظت بصدى تلاوته للقرآن منذ صباه. لم تكن الدنيا تعنيه إلا بقدر ما توصله إلى رضا الله وخدمة الحسين (عليه السلام)، فاختار طريق العلم الحوزوي، يتعمق في الفقه والعقيدة، ثم اعتلى المنبر الحسيني خطيباً صادق الكلمة، يوقظ القلوب بخطبه ويذكّر الناس بثورة كربلاء، حتى صار صوته مألوفاً في المجالس، ينفذ إلى الأرواح قبل الآذان.
لكن الأيام حملت إليه نداءً آخر... نداءً يشبه صوت الإمام الحسين (عليه السلام) يوم قال: «هل من ناصرٍ ينصرنا؟»
فلم يتردد الشيخ، بل قال كما قال الأوفياء: لبّيك يا حسين.
ومع صدور فتوى الدفاع الكفائي، كان من أوائل المستجيبين بالمال والنفس، يحمل مؤن المجاهدين إلى خطوط الصد، يواسي الجرحى، ويمسح بيديه دموع الأمهات، حتى ضاق به البقاء خلف الخطوط، فقرّر أن يكون واحداً من أولئك الذين يكتبون النصر بدمائهم.
التحق بالمعارك مقاتلاً، وهو الذي طالما بشّر على المنبر بفضل الشهادة، يشارك في تحرير المدن، من جرف النصر إلى بيجي، ومن صلاح الدين إلى نينوى، وكلما انتهت معركة قال بأسى:
"للأسف، لم أوفّق للشهادة في هذه المعركة."
كان قلبه معلّقاً بالشهادة كتعليق العاشق بنظرةٍ من حبيبٍ غائب، حتى استجاب الله لدعائه في معارك تحرير الشرقاط.
في ذلك اليوم من 20 كانون الثاني 2017، كانت النقطة التي يرابط فيها الشيخ مع اثنين من رفاقه هدفاً لهجومٍ عنيفٍ من فلول داعش، فقاتلوا بثباتٍ نادرٍ لا يعرف التراجع، حتى ضاقت بهم الأرض، وتكاثرت عليهم نيران العدو.
سقط الشيخ وهو يقاتل ببندقيته، يردد الأذكار، ووجهه مطمئن كأنه في صلاةٍ طويلة. نالوا الشهادة جميعاً، وارتفعت أرواحهم كما ترتفع تكبيرات النصر من فوق المنائر.
لكن مشهد الفاجعة لم يتوقف عند الشهادة، إذ أقدم الإرهابيون على قطع رؤوسهم وتهشيم صدورهم، فبدت أجسادهم الطاهرة وكأنها تواسي جسد الحسين (عليه السلام) المرمّل بالدماء. كانت تلك اللحظة تجسيداً لمعنى الإيثار الحسيني، إذ ذاب الشيخ في خطّ كربلاء حتى صار جزءاً من ملحها، من ترابها، من دموعها.
رحل الشيخ المجاهد خميس المنصوري –كما كان يُعرف بين رفاقه– تاركاً وراءه زوجةً مؤمنةً وثلاثة أبناءٍ أوصاهم بأن يكونوا أوفياء للدين والوطن، وبأن لا يُقطع طريق أحدٍ في مجلس عزائه، ولا تُطلق رصاصةٌ عبثيةٌ تُحزن قلب الزهراء (عليها السلام). كانت وصيته الأخيرة درساً في الوعي حتى بعد الرحيل، فكما عاش خادماً للحق، أراد أن يُدفن بسلامٍ لا يُزعج الناس ولا يُخالف وصايا الدين.
سلامٌ على خطيبٍ ترك المنبر ليعتلي منبر الدم، سلامٌ على مجاهدٍ ختم خطبته الأخيرة بصرخةٍ في وجه الباطل،
وسلامٌ على الشيخ الشهيد خميس عبد الحسين الجاسم يوم ولد في القرنة، ويوم استشهد في الموصل، ويوم يُبعث حياً مع أصحاب الحسين الذين قطعت رؤوسهم لكنّ التاريخ لم يقدر أن يقطع ذكرهم.