أدب فتوى الدفاع المقدسة
الشّهيدُ السّعيدُ رائد توفيق الزيديّ
2023/05/21
(2) الشّهيدُ السّعيدُ رائد توفيق الزيديّ
أكبرُ وسيلةٍ تدفعُ الإنسانَ نحو الثّباتِ والتضحيةِ، وأهمُّ عوامل النّجاح والفلاح التي تعطيه روحَ التحدّي والإصرار والقدرة على مواجهة الصّعوبات وتقبّلها، والاستمرار في المناضلة والمكافحة لها، وأحدُ أفضلِ أسبابِ الشّجاعةِ والإقدام؛ هي العقيدةُ والإيمانُ الصّادقُ والرّاسخُ بالقضيّة والمبدأ، فهي أفضلُ عوامل القوّة حسْب الموازين العسكريّة والقتاليّة، ومِنَ المعلوم أنَّ عواملَ القوّةِ تكمَن في شيئينِ، هما: العاملُ المعنويُّ، وهو المتمثّل بالعقيدةِ والإيمان بالقضيّة التي مِن أجلها تُقدَّم التضحيةُ والفداءُ، والعاملُ الماديُّ المتمثّل بجانب العِدّة والعدد والأموال، فلا يمكنُ أنْ يخلو منهما أيُّ حدثٍ أو ثورةٍ أُريد لها النّجاح والانتصار والخلود، إلاّ إنّ خصوصيّةَ السّلاحِ المعنويّ نافذة، إذْ بهِ يستطيعُ الإنسان أنْ يُواجه الأعداء مهما بلغ عددُهم، و يُواجه أمّةً بكاملها، وهذا ما حصل مع أصحاب الإمام الحُسين وأهل بيتِه الكرام، فهم على الرّغم من قلّةِ عددِهم وضعفِ العاملِ المادّي بوصفهِ مقوِّماً ثانياً لأيِّ نهضةٍ، إلا إنّهم كانوا يمتلكونَ أعلى درجاتِ العقيدةِ والإيمانِ بقضيّتهم وثورتهم؛ فكانُوا مثالاً للثبات والتضحية والفداء من أجل مبدئهم وقضيّتهم، وكانُوا أمثلة للشجاعة والإقدام، إذْ ظهرت عليهم هذه الصِّفة بصورةٍ واضحةٍ من خلال خطاباتهم ومواقفهم مع الأعداء، فهذا شبيهُ رسول الله عليٌّ الأكبر يُفصِح عن تحقّق هذا العامل المهمّ في ثورتِهِ وقضيَّتِهِ، وامتلاكِه، في أوّل أيّام الثورة، حينما كانُوا متّجهين إلى العراق عندما سمِع أباهُ الإمامَ الحُسينَ يسترجعُ ويُكثِرُ مِن قولِ لاحولَ ولا قوّةَ إلا بالله، ويقول: القومُ يسيرونَ والمنايا تَسيرُ معهم، فقال له: أبَه أوَلسَنا على الحقّ؟ قال: بلى، والذي إليه مرجعُ العبادِ -عندها أبانَ لنا وللأحرار في العالم- فقال: إذن لا نبالي، وقعنا على الموت، أو وقع الموتُ علينا، فهذه العقيدةُ الصّادقةُ جعلتْ أصحاب الإمام الحُسين وأهل بيته يسطّرون أروع صُوَر البطولة والشّجاعة؛ لذا كان عليٌّ الأكبر أوّلَ مَن نزل إلى الميدان من أهل البيت، وهو يرتجزُ:
أنا عليُّ بن الحسين بن علي
نحنُ وبيتِ اللهِ أولى بالنبيّ
مِن شَبَثٍ ذاكَ ومِن شَمر الدّني
أضربُكم بالسّيف حتّى يلتوي
ضربَ غلامٍ هاشميٍّ علوي
ولا أزالُ اليوم أحمي عن أبي
واللهِ لا يحكم فينا ابنُ الدَّعيّ
وأخَذَ يطرُدُ الكتائبَ، وتفرُّ الفرسان والشجعان مِن بين يديه، كجدّهِ أمير المؤمنينَ، فعادَل بمفرده معسكراً، يحملُ ويرجع منتصراً، وهو يحمل علامة الغلبة والنصر إلى أبيه، ثمَّ يكرُّ إلى الميدان يغبِّر وجوهَ القومِ بحملاتِهِ وصولاتِهِ، حتى يسقطَ صريعاً شهيداً، وهذا هو حالُ كلِّ أصحاب الإمام الحُسين وأهل بيته عليه و عليهم السّلام.
وهذا الأمرُ نفسُه نجدُه حاضراً في أبناء الحشد الشعبيّ، وفي شهدائه بالخصوص، إذْ يشهدُ بلدُنا اليوم غزواً بربريّاً يهوديّاً يقودُه يهودُ هذه الأمّة ومنافقوها، الذين كانُوا وما زالوا يكيدونَ بالإسلام والمسلمينَ ومقدّساتهم، فشمّرتْ طائفةٌ مؤمنةٌ من أبناء هذا البلد، الذين قلَّ نظيرُهم اليوم، لم يحرِّكهم شيءٌ نحو الجِهاد إلّا العقيدة والإيمان بضرورتِهِ ووجوبِهِ دفاعاً عن مقدّسات البلد وأرضِه وشعبِه، فحملُوا هذه المسؤوليّة المقدّسة، وتحمَّلوها.
ومِن أولئك الأبطال الشّهيد السّعيد(رائد توفيق أحمد جودة الزيديّ)، آمر فوج المختار الثقفيّ، ضمن تشكيلة لواء عليٍّ الأكبر، التابع للعتبة الحسينيّة المقدّسة، وهو من أبناء مدينة البصرة، ولد في منطقة الجنينة سنة 1975م، يسكن منطقة السّايلو، وهو متزوِّجٌ وله ستّةُ أولادٍ، ومِن عائلةٍ مؤمنةٍ مواليةٍ لأهلِ البيتِ.
تحمّل الشّهيد السّعيد كفالة عائلته وهو صبيٌّ ابنُ تسعِ سنينَ، بعد أن فقد والدَه في عام 1983م، أكمل دراسة الصّفّ الثالث المتوسّط، زاولَ بعدَها الأعمال الحرّة حتى أصبحَ يعملُ مقاولاً في بناء المنشأة الحكوميّة (محطّات الكهرباء)، إلّا إنّه ترك عملَه وأعرَضَ عن الدّنيا بعدما التحقَ بساحاتِ الجِهاد، وتبرّع بأمواله ووظّفها في سبيل الله وجهاد أعدائِهِ، فجعلها على شكل هدايا ومساعدات لمن ينزل من الحشد الشعبيّ، وأنشأ مشروعاً آخَر لخدمة المجاهدينَ بأنْ جعل صندوقاً يشتركُ فيه بعضُ المتطوّعين، فيدفعُ كلُّ واحدٍ مئة ألف دينار من أجل شراء حافلةٍ تنقل المتطوّعين من كربلاء إلى البصرة عند نزولهم من الجهاد، ومِن البصرة إلى كربلاء عند التحاقهم، وتحمّل هو الجزءَ الأكبرَ من ذلك، كما أنّه وظّف سيارته الخاصّة للخدمة في ساحة الجهاد، فبذل ماله -أيضاً- في سبيل اللهِ ، حتّى إنّ أحدَ أصدقائِهِ يقول: عندما وقفتُ عليه شهيداً لم أجِدْ في جيبِهِ مِن الأموالِ إلا ألفي دينار.
كان محبوباً بين أهلِه وأصدقائه وأهل محلّته، وكلُّ مَن عايشَه وعاشَره يَشْهَدُ له بحُسن الأدب والخُلُق، وكان شديدَ الارتباط بالإمام الحُسين وأهل البيتوالعِشق لهم، دَؤوباً في خدمتهم، ففي عام 2004م تطوّع للخدمةِ في العتبة العبّاسيّة المقدّسة، ثمَّ في العتبة الحسينيّة المقدّسة، وكان مسؤولَ مجموعةِ مطوّعين، ويُرجع إليه في فضِّ بعض الخلافات التي تقع أثناء العمل، حتى إنّ رئيسَ المتطوّعينَ في العتبة يَضربُ بهِ مثالاً للمسؤولِ الناجحِ، والعاملِ المخلِصِ السبّاق إلى الخدمة قبل أفراد مجموعتِهِ، وفي أثناء هذه الفترة كان يُواصلُ الخدمةَ في موكبِ عابس، ثمّ في عام 2011م أسّس موكبَ أبي الفضل العبّاس الخدمي، وكان هو المسؤولُ عنه مع خالِه محمّد عبد علي، ويقدِّم فيه الخدمة لزوّار الأربعين (المشّاية من البصرة إلى كربلاء).
سمِع بفتوى الجهاد وهو في أثناء عملِهِ في العتبة الحسينيّة المقدّسة، فبادر حينها مسرعاً إلى التطوّع والجهاد، والتحق بساحات الوغى ضمن الوجبة الثانية من المتطوّعين في لواء عليٍّ الأكبر؛ ولخبرته السّابقة في الحرب أُعطِي مسؤوليّة آمرِ فوجِ المختار الثقفيّ، وكان خير مسؤولٍ لرعيّتِهِ، وخيرَ قائدٍ لمجموعته ( فصيل الأسلحة السّاندة)، كان يُجيد استخدام سلاح الهاون بشكلٍ ممتاز، حتّى سمَّوه بقنّاص الهاون، له فِطنةٌ وخُبرةٌ في الحروب، فيُعتَمدُ عليه في كلِّ مواجهةٍ تستعصي على المجاهدين، ويُبادرُ هو بمعالجتها؛ لخبرتِهِ وشجاعتِهِ، عُرف جَسوراً، مِقداماً، لا يهاب الموت، وله في ذلك شواهد وقصص،
منها:
في أحد المرّات تعرّض صهريجُ ماءٍ « تنكر» تابع للعتبة ضمن قاطع فوج عابس إلى إطلاقاتٍ مكثّفةٍ مِن القنّاص؛ لذا اضطرّ سائقُه إلى النزول عنه وتركه، وأخذ القنّاص يضربُهُ في أماكن حسّاسة ظنّاً منه أنّه مملوءٌ بالنِّفط أو البنزين، فسمع الشّهيد رائد بذلك عن طريق جهاز المناداة، فاتّصل بهم من أجل مساعدتهم، فرفضُوا في البدء، لكن بعدها جاء النِّداء (مختار واحد)، وطلبُوا منه المجيء، فجاءَ مسرعاً، وتوجّه إلى سلاحٍ ثقيلٍ يُدعى بـ (الشّلقة)، فقالوا: إنّه عاطل، فأصلحهُ على الفور، وصعد بهِ على السّاتر، وأخذ يردُّ على القنّاصة، إلى أن أسكتَهُم تماماً، ثمَّ طلبَ مِن المجاهدينَ أن يُشاغلوهم بأسلحة الـ (بي كي سي)، فصَعَدَ السّاتر، وقَصَدَ التنكر، وجاءَ به.
ومرّةً أخرى تعّرض فوج مالك الأشتر التابع للواء عليٍّ الأكبر إلى هجومٍ بالمدرّعة، وبما أنّهم لا يمتلكون في وقتها مدرّعة تُقابلها؛ لذا صعُبَ عليهم ذلك، فهبَّ الشّهيدُ لمساعدتهم، فأخَذَ على الفور سلاحَ القاذفة، وقصدَ المدرّعة، فشاهدَهُ القنّاص، فأخذ يُطلِقُ عليه، فاختفى في غرفةٍ صغيرةٍ كانت معدّةً للرّصد، فانهالت عليه الإطلاقاتُ لأكثر مِن قنّاصٍ واحدٍ، حتّى تهدّمت الغرفةُ عليه، فظنُّوا أنّه مات، عندها خرجَ وهو يحملُ قاذفتَه ورمى المدرّعة واستطاع أن يصيبَها.
شارك الشّهيد السّعيد في عدّة معارك، منها: أطرافُ كربلاء، وجرفُ النّصر، وبَلَدُ، وقد جُرِحَ في أثناء عمليّة تحرير جرف النّصر، حينما كانَ قدْ نصب كميناً للمدرّعة بعد أنْ عمل ساتراً، وبينما هو مختفيّاً خلفه جاءت المدرّعة، فصاح به إخوتُه المجاهدونَ خوفاً منهم عليه، فكُشِفَ أمرُه، فخرج واختفى خلف جدارٍ (سياج من بلوك)، فأخذتْ المدرّعة ترمي عليه مِن نيرانِها، فكانت إحدى اطلاقاتها قريبةً منه جدّاً حتّى إنّها عندما أصابت الجدار المحتمي به انفجرت على يدِهِ، فأصيبَ بها، فتهشّم العظم وقُطِعَ العَصَب، فدَخَل مستشفى المواساة في البصرة، إلا إنّهم لم يستطيعوا علاجَها، فنقلته العتبة إلى لبنان للمعالجة هناك، وبعد عودته زاره في بيته وفدٌ مِن مكتب الشيخ عبد المهدي الكربلائيّ، وقد أهدوا له درعَ البطولةِ والفداء، وقبل أن يبرأَ جرحُه بالكامل التحقَ بالفوج في قضاء بَلَد على أثر مناشدة المجاهدينَ له بالعودة لوجود الثُّغرة التي تركها في فترة غيابه عنهم؛ لأنّه كان يمثّل بمفرده فوجاً كاملاً، كما نقل أحدُ المقاتلينَ الذين كانُوا معه.
كان الشّهيدُ مؤمناً وعارفاً حقَّ المعرفة بعاقبة أمره هذا؛ وقد ظهر ذلك في كلامٍ مصوَّرٍ ومسجّلٍ له قبل أن يُستشهَد بعشرِ ساعاتٍ، وهو يتحدّث مع أفراد فوجِهِ، يبُثُّ فيهم روحَ العزيمة، ويُوصيهم بالثّبات، وتجاوز المشاكل والصّعوبات التي يواجهونها من ناحية المعيشة والرّواتب، وهو يُقسِمُ لهم ويقول: سوف تتجاوزونَ كلَّ هذه المشاكل، وسوف تتذكّرونَ مقالتي، وتقولونَ: يا ليتَنا لم نأخذْ على عملنا هذا أجراً مادِّيّاً.
وأخيراً خَتَمَ حياته الجهاديّة بعد مشاركته في تحرير قضاء بلد، الذي كان له فيه الدّور البطوليُّ المشرّف، وبعد عمليّة التحرير فَقَدَ اثنين من رفقائِه، فخرج يبحثُ عنهما، فلمّا وصل إلى منزلٍ كان قد شكَّ فيه، أمَر مَن رافَقَه أنْ لا يدخل إليه إلا هو وابنُ أخيه، إلا إنّ أحدَ المجاهدينَ الذين كانُوا خارج المنزل دخل مِن البابِ الخلفيِّ للمنزل، وكان الباب مفخَّخاً بما يُعرَف بالمسطرة، مَا أدّى إلى شهادتِهِ وشهادةِ القائد رائد توفيق، وجرح ابنُ أخيه، فسقَطَ شهيداً سعيداً، وحصل على ما سعى إليه، ولِمَا كان يتمنّاه، بتاريخ (2014/12/30م).
وكان لشهادته الأثرُ الكبيرُ على أبناء لواء عليٍّ الأكبر  –خصوصاً- وأبناء الحشد الشعبيّ –عموماً-، لذلك شهدت مدينة كربلاء تشييعاً مهيباً له، إذْ حُمِلَ نعشُه على أكتاف إخوته المجاهدين من أبطال الحشد الشعبيّ، ومنتسبي العتبة الحسينيّة المقدّسة، تحيط بهم أهالي مدينة الإمام الحُسين  وزوّارها، وأُدخل نعشُه مِن باب القبلة، وطِيف به حول ضريحِ الإمام الحُسين  بعد أن صلّى عليه سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائيّ، وشهدت مراسيم الفاتحة حضورَ عددٍ كبيرٍ من العلماء والشخصيّات، ودُفن في مثواه الأخير في وادي السّلام في النجف الأشرف إلى جنب إخوانه الذين سبقُوه إلى النّعيم الدائم؛ فسلامٌ وأمانٌ مِن الله عليهم وملائكته وأنبيائه وجميعِ عبادِ اللهِ الصالحينَ.


مدرك الحسّون