أدب فتوى الدفاع المقدسة
الرحمة المهداة
2025/06/27
بقلم: -نغم المسلماني
هنا في بلادي.. حيث يطوي الزمن أيامه المبعثرة، تختنق عقارب الساعة فتمضي هاربة على عجالة تروم اللحاق بما يحدث، لتسرد كل ما يرد في صفحاته المسطرة أحداثاً كثيرة ومشاعر غريبة.. أخبار وأحداث... كل شيء يتعلق بأرجوحة الزمن حيث يسخر من أقدارنا وأحلامنا، حتى بات حبر الفجائع الأسود يعلن عن بدء عصور جاهلية جديدة، وأصبحت أرض الرافدين تسمى بـ (العراق المنكوب).
بلادي التي بدأ أناسها يفرون منها الى المجهول هرباً من طوق النكبات الذي يحاصر أيامهم كغول لا يشبع.
وفجأة.. هناك وفي وسط هذا الليل الدامس رأينا قبساً لشمعة التفت حولها ملايين الفراشات المضيئة، اجتمعت لتكون شموساً تنثر معاني الإيثار وتحصد آلاف الاجساد والدماء، وصيرت نورها جبلاً من الشموخ، فأصبحت كرحمة مهداة كسرت قيود الظلام وأنارت منعطفاً من الدرب، وغيرت الكوابيس المفزعة بأحلام الأمل، أخيراً تمزقت عباءة الظلم وأشرقت شمس بلادي من جديد بفضلها، واحدى هذه اليراعات المضيئة كان خادم أهل البيت الشهيد.. سلام كامل، أحد أبطال لواء علي الأكبر.

فبعد أن نطق الشهادتين وطهر أرض بيجي بدمائه الزكية، صعد الى جوار الباري في الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك عام ١٤٣٦هـ، حيث المنزلة العظيمة التي تليق بجسيم تضحيته، حينها قادتنا قلوبنا كعادتها الى منطقة الجدول الغربي، إذ تقطن عائلته في بيت صغير، وبعد ان وصلنا أعتاب الدار طرقنا الباب وصرنا لا نطيق الانتظار حتى نرى وجوه من تركهم وراءه دون أن يبالي، وما هي الا لحظات..
وإذا بامرأة تستقبلنا بحفاوة وكرم، وقد اختلطت ملامح الفخر والحزن على بساط جبينها، فأخذ يسابق أحدهما الآخر، وبدت التعاريج والخطوط التي رسمتها قسوة الزمن واضحة على بشرتها المتعبة، كانت تحمل نظرة النسر الجسور في أحداقها، ولكن إذا ما أمعنا النظر رأينا أن الدمع ما زال يقف متأهباً خلف أهدابها، فقد أضحى لها خير وأنيس تلجأ اليه، فترمي أوجاعها في قطراته دون أن يشعر بها أحد، هذه هي زوجة سلام ورفيقة دربه، قابعة كالنسر على أبنائها الخمسة، تروم أن تجعل منهم خير خلف لخير سلف.
تحيرت في أمرها، من أين لها هذه القوة التي تلوي بها أيدي المصائب حين قالت:- أنا زوجة البطل سلام وأفخر كوني كذلك، وأنا أول من آزره عندما قرر الالتحاق بركب المجاهدين، وكنت اعشق كلمات كانت تترنم بها شفتاه الى أن رحل الى مثواه الأخير.. والكلمات كانت الي هدفان في هذه الحياة لا ثالث لهما أما الشهادة وأما النصر «حدثتنا... وحدثتنا
وأنا أنظر الى شفتيها المشغوفة بالمديح لزوجها الغائب الغالي واللب يزداد حيرة.
ما هذا الرضا الذي يسكن نفسها رغم ما تمر به من مصاعب مؤلمة، أنهيت لقائي معها وخرجت بفم صامت وكلمات هزيلة أمام هيمان صبرها وقناعتها، خرجت بشفاه صامتة وقلب يهمس ما هذا الصبر وما هذه القناعة؟
لم يسعفني طريق العودة الطويل أن أستشف مكامن الأسباب، وقد حان أو ان العودة حيث الساعة قاربت الثانية بعد الظهر، عدت من حيث أتيت من مرقد القدس والروحانية حيث يقبع أبو الأحرار، دخلت أبوابه الزكية فشعرت براحة وطمأنينة ومشاعر أخرى متشابكة تائهة تريد البكاء بين يديه وأنا أردد بعبرة وبصوت مرتجف - السلام عليك يا مولاي يا ابا عبد الله..
انقضى الوقت وانا في رحابه وارتاعت النفس في حضرته ، وقاربت الشمس على المغيب، فإذا بخيوطها المتعبة تذكرني بما كان من صبر جبل الأحزان زينب الكبرى عال، فأيقنت وسلمت أن ما رأيته من دماء الشهيد ويقين زوجته ما هي الا رحمة مهداة.

المصدر: موسوعة فتوى الدفاع - مآثر من صفحات التاريخ (قصص أدبية)، الجزء 58، ص62 -ص63