"القاسمُ يعود من جديد"
2025/06/29
بقلم : اكرم علي الداوودي
في أحد أزقّة واسط، وُلد فجرٌ جديد في ليلةٍ تكتنز بالقداسة، ليلة النصف من شعبان عام 1998، حين أطلّ مثنّى الكلابي على الدنيا، كما لو كان وعدًا من السماء بأنّ القاسم بن الحسن (عليه السلام) سيولد من جديد.
لم يكن طفلاً عاديًّا، فمذ بدأ يخطو خطواته الأولى، كان قلبه معلقًا بالحسينيات، وعيناه تدمعان في المجالس، يتأمل صور الشهداء، ويتساءل في قرارة نفسه: هل سأكون مثلهم يومًا؟
ومع مرور السنوات، نما جسده على حبّ أهل البيت (عليهم السلام)، وارتدى عباءة الطفّ مبكرًا، يمثّل دور القاسم في مواكب التشابيه، يخطو إلى ميدان المعركة الرمزية بكل فخر، يلوّح بسيفٍ خشبيّ، ويُسقطه خصمه على الأرض في لحظة تمثيلية دامعة، لكنّ قلبه كان يهمس: سأفعلها حقًا يومًا ما...
سأموت مقاتلًا لا ممثلًا بل شهيداً.
وما إن دوّى نداء الفتوى المباركة من منبر النجف، حتى خفق قلب مثنّى كما لم يخفق من قبل، لم يكتفِ بالبكاء على الحسين، بل نهض ليُلبي نداء الامام الحسين (علية السلام) الجديد.
أقنع والدته بأنّه ذاهب إلى الصويرة للتدرّب مع المجاهدين، وحين أرادوا وضعه في مفارز الدعم الغذائي لصغر سنّه، انتفض بكلمات القاسم التي حفظها في التشابيه:
"جئتُ مقاتلًا لا عاملاً... أريد أن أقاتل كما قاتل ابن عمّي".
اندهش القادة من إصراره، ومن تلك النظرة المضيئة في عينيه..
قال القائد أعطوه قاذفة، فكان كما لم يتوقّعوا... سريع التعلّم، ثابت القدم، وافر الشجاعة.
لم يمضِ وقت طويل، حتى أُرسل مع رفاقه إلى بيجي، وهناك، كانت معركة تحرير صلاح الدين تشتدّ، والرصاص لا يهدأ، فدخل الميدان كما لو كان يدخل مسرح طفٍّ آخر، لكنّه هذه المرة لم يكن يرتدي ثياب التمثيل، بل درع الشهادة.
قاتل مثنّى ببسالة، وراح جسده النحيل يصدّ الموت وكأنه عملاق، حتى أصابته رصاصاتٌ غادرة في الشهر العاشر من عام 2015م، فسقط بين رفاقه، وعلى وجهه ارتسمت ابتسامةٌ هادئة، ابتسامةُ من رأى الجنة قبل أن تُفتح له أبوابها.
قبل استشهاده بيوم، اتصلت به أمّه تسأله بلُغة الأمهات الدافئة:
– "شلونك حبيبي؟ بعد يومين تبدي التشابيه، تعال مثّل دور القاسم مثل كل سنة..."
فأجابها، وصوته يختزن يقينًا غريبًا:
– "لا يامّه، ما أگدر أعوف الجبهة... أصلاً القاسم والإمام الحسين عليهم السلام ويانه بكل معركة!"
بعد يومين فقط، لم يذهب ليمثّل القاسم... بل أصبح القاسم...
وهكذا، طوى مثنّى فصل الحياة وهو يحمل قضيّة، ومضى إلى الله حاملًا قاذفته وسيرته الطاهرة، تاركًا خلفه دمعة فخرٍ وأمًّا تروي قصته لكل من أراد أن يعرف كيف يولد القاسم في كل زمان.