أدب فتوى الدفاع المقدسة
الشّهيدُ السّعيدُ الشّيخ علي نافع العبوديّ (أبو وارث)
2023/06/06


كرَّمَ اللهُ تعالى بني آدَمَ وفضّلَهُم على جميعِ مخلوقاتِهِ، وحباهم بنعمٍ لا تُحصُى ولا تُحصَر، فحملَهُم في البَرِّ والبَحْرِ، ورزقَهُم من طيّباتِ ما خَلَق، وهداهم بالفِطرة، وأتحفَهم بجوهرةِ العقلِ الرسولِ الباطن، وألقى عليهم الحجّة بالرُّسلِ الظاهرةِ، فمزيّةُ العقلِ نعمةٌ من أعظم النِّعم التي يعجزُ الإنسانُ عن أداء شكرِها، وكرّمهم بحُسْنِ الخِلقَةِ، إذْ بَرَأَهُم وصوّرهم في أحسنِ تقويم، ففضلاً عن المزايا الجسميّة، التي لا يؤدّى شكرُها، اصطفاهم بروحٍ منه لا يَعلَمُ سرَّها إلّا هو، فقد أودع فيها مجموعةً واسعةً من الاستعدادات والقدرات الكبيرة التي تؤهّل الإنسانَ لطيِّ مسيرة التكامل التي من أجلها خُلِق؛ ليكونَ خليفةَ اللهِ في أرضِهِ، وتتجلّى فيه أسمى الصّفات الرحمانيّة، فَيَسعد بها في الدّارين، ويرقى إلى أعلى علّيّينَ مع الذينَ أنعم اللهُ عليهم بالعبوديّة والإخلاص له جلَّ شأنُه، فإنَّ قمّةَ الكَمَالِ الفَنَاءُ في ذاته تعالى، والإقدامُ على بيع النّفس للهِ (عزوجل)، وعقد الصّفقةِ في التِّجارة المُرْبِحَة (إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ، وقليلٌ هُم أصحابُ الوَفاء الذين حكَّموا العقلَ والفِطرة والضّمير في شكر المُنعِم على أعظم النِّعم وهي الولايةُ لله ولرسوله الكريم وولاة الأمر مِن آلِهِ الطيّبينَ الطاهرينَ، الذين ارتضاهم خلفاءَ في أرضِه، واختصَّهم بقمّةِ الكمال، إذْ أعطَوا شيعتهم منهاجاً كاملاً في السَّير والسّلوك، فأتبعهم ثلّةٌ مِن الأوّلينَ، قدْ تأوّه أميرُ المؤمنينَ(عليه السلام) لفقدِهم، ووصَفَهم سيّدُ الشّهداء(عليه السلام) بأنّهم أفضلُ الصَّحْبِ وأبرُّهم، وألحقَ بهم ثلّةً طيّبةً من الآخرينَ، الذين استجابوا دعوةَ الحقِّ في الدّفاع عن مقدّسات الدّين، زاهدينَ بالدّنيا وما فيها، مستبشرينَ ببيعهم الذي بايعُوا.
ومِن أولئكَ الصّادقينَ المُوفِينَ بعهدهم، الشّيخ الشّهيد علي نافع، الذي سار نحو كمالِهِ مُنذُ نعومةِ أظفاره.
وُلد الشّهيد عام(1964م-1384هـ) في البصرة، منطقة المطيحة، متزوِّجٌ وله أولادٌ، يسكن قرية مهيجران- قضاء أبي الخصيب، درَسَ علومَه الأكاديميّة في مدرسة المطيحة الابتدائيّة، وأكمل دراستَه في متوسّطة الثوّار، ثمّ انتقل إلى مدرسةِ الإمامِ الصّادقِ المسائيّة بسبِ ظروفِهِ المعاشيّة، فكان يعملُ نهاراً، ويدرسُ ليلاً.
نشأ وترعرعَ على مبادئ الدّينِ الحنيفِ، فقد كان بيتُهم قريباً مِن حسينيّة الإمامِ الصّادق(عليه السلام)، التي كان يرتادُها ويتلقّى فيها أخلاقَ أهلِ البيت(عليهم السلام)عن طريق مخالطة تلك الثلّة الطاهرة من الآباء، الذين ورِثوا الأخلاق الحميدة مِن سلفِهم الصّالح والشّباب الرساليّ، وكانَ قريباً مِن أعمارهم، فكانُوا له قدوةً، فهُم نِعْمَ الصَّحْبُ وخيرتُهم، إذْ منهم مَنْ نالَ وسامَ الشهادةِ إعداماً على أيدي البعثيّينَ، وهو الشّهيد السيّد حسين الموسويّ، والشّهيد رياض الردينيّ، وآخرهم الشّهيد محمّد نافع أخو الشّهيد الأكبر، الذي كان له الدّورُ المشرّفُ في الانتفاضة الشعبانيّة.
وقد اشتركَ الشّيخُ الشّهيدُ في انتفاضة الإباء مع الأبطال من أهالي قرية مهيجران، التي التجأ إليها، وسكن فيها إثر مضايقة البعثيّينَ له، وقد سطّر أروع صُور الشّجاعة والبسالة، إذْ كان الشّهيد يُجيدُ الرّمي بسلاح الدبّابة، فقد جاء بسائقٍ قادها له إجباراً ليضعَها له في طريق أبي الخصيب الضيّق؛ ليمنعَ لواءً مدرّعاً مِن التقدّم لسحق الثوّار، ثمَّ أذِن للسّائق بالانصراف، وواجه جيشاً كاملاً لوحدِهِ، وعرقل مسيره.
هاجر الشّهيد إلى الخارج بعدما تمكّن أزلام النظام مِن القضاء على شعلة الانتفاضة، وبقي لمدّة سنة، ثمّ عاد إلى بلدِهِ، وعانى الأمرّينِ من مطاردةِ أزلام النّظام له، وقد توفّي والدُهُ إثر اقتحام بيتِه من قبل البعثيّينَ بحثاً عن الشّيخ، ولم ينعمْ الشّهيد بساعةِ استقرارٍ، فكان مشرّداً عن داره وعياله ليلَهُ ونهارَه، لا تعرفُ عيناه النوم، مسهّداً مطارداً ووصل به الحال إلى أنَّ مَن يُسلِّمُ عليه يُستدعى ويوبّخ على ذلك من قبل (الرّفاق) البعثيّينَ الأوغاد، وفي أواخر سِنِيِّ النظام البائد التحق بالحوزةِ لفترةٍ قليلةٍ اُعتُقل في أثنائها عدّة مرّات، وكان له الدّورُ الفعّال في احتضانِ الشبيبة وتوجيههم الوجهة الصّحيحة، ودعمهم بكلِّ ما يملك مِن قدرةٍ وبيانٍ، فهو خطيبٌ منبريٌّ استمدّ مسيرةَ كمالِهِ مِن سيرةِ الأئمّةِ الطاهرينَ، خصوصاً أبيّ الضّيم سيِّد الشُّهداء(عليه السلام)، وحين صدور الفتوى التاريخيّة للمرجع الأعلى (دام ظلّه)، هبَّ الشيخُ مع ثلاثةٍ مِن أولادِه للدِّفاع عن حياض المقدّسات، وكان يقول: إنّ فتوى سيِّدنا المرجع (دام ظلُّه الوارف) أعطتنا دعماً، وكانتْ لنا خيرَ سندٍ، إذْ بها تلاحم الخيّرونَ البَرَرَة مِن أبناء أرضنا المقدّسة، وأثبتُوا ولاءهم للعترة الطاهرة.
بذل الشّهيد نفسه فداءً إلى أرض الرافدين للدّفاع عن حرمات الدّين مع ما به مِن الإرهاق والمرض، إذْ كان عنده انسدادٌ في الشّرايين، وأُجريت له قسطرةٌ، لكن لم يمنعه هذا من الحضور في مقدّمة الصّفوف، وإذا نزل فإنّه يُبقي أحدَ أولاده نائباً عنه، فلم يجتمع مع أولاده إلّا في الجبهة، وكان إذا نَزَل لا يفتُرعن زيارة عوائل الشّهداء، وتقديم العزاء والمعونة لهم، والسَّعي في قضاء حوائجهم، وهذا لا يَثنيه عن إغاثةِ بقيّةِ الملهوفينَ والمستضعفينَ، خصوصاً الأيتام والأرامل، وكان على اتصالٍ دائمٍ بأرضِ المعركةِ، يتحرّك إذا سمِعَ بتعرّضٍ مِن الأعداء، وقد أشفق عليه بعضُ رفاق دربه فطلبُوا منه أنْ يبقى في الدّعم اللّوجستيِّ، إذْ إنّه كان مكسورَ الحوض، وجزءٌ كبيرٌ مِن حوضِه مثبّتٌ بالبلاتين، الذي كان معيقاً لحركتِهِ، ومع كلِّ هذا أبى إلا أنْ يُشارِكَ في القتال؛ لبثِّ روح الحماس في صفوف المقاتلينَ، وشدِّ عزيمتهم، وهكذا ارتقى الشّيخ آخرَ مرقاةٍ للكمال، فَعَرجَت روحُه إلى بارئها مع الخالدينَ في منطقة الدّور إثر انفجارِ عبوةٍ ناسفةٍ في طريقه بتاريخ(2015/3/21م)، فسلامٌ عليكَ يا أبا وارث، وهنيئاً لك الشّهادة، وحشرك اللهُ مع محمّدٍ وآلِهِ الطّاهرينَ.
شبّرالسّويج