اتركيني أمضي
2025/05/02
بقلم: نغم المسلماني
ذكريات حملتني من أرض واقع ممجوج الى صورة رائعة من الماضي القريب، حيث أجلس مجتمعة بأحبتي، أطفالي من حولي وزوجي يتوسطنا ويضيء هذه الهالة العائلية الجميلة، أراه يتنقل بيننا وكل نظرة كانت تحمل خلف أسوارها حكايات وقصصا. كنت متيقنةً من حبه لنا، وان نظراته الحائرة تلك ما هي إلا محاولة لمعادلة الكفة وترويض ما بصدره من مشاعر تناقضت رغم توحدها بخير المسعى وسمو المقصد، ففي كل مرة كان يتيه في حيرته بين حبه لنا وحبه الأكبر لعقيدته وبلده، فيحسم أمره في نهاية الإجازة بحزم أمتعته والالتحاق بالجبهة، وكأن السواتر كانت تمنحه الراحة أكثر من بيته وعائلته !
وما يشعرني بالندم حقاً هو أنني أنا من أثقل كاهله، فقد كنت همه الأكبر لأنني أبدأ بالصبر وشيئاً فشيئاً حتى تتفجر براكين صبري خوفاً عليه، فأدعوه علناً للتقاعس دون المضي لهدفه.
فاتتني حقيقة مهمة لم أتداركها إلا في آخر إجازة له، وهي أن من يولد بميزات الأبطال لا يمكن أن يعيش دون ذلك، كما لا يمكنه أن يُصير نفسه عبداً ذليلاً لغيره، أدركت ذلك متأخرة لا بل بعد فوات الأوان... فكم عاتبته وكم لمته بتذمري وجزعي، كانت فكرة فقدانه ترعبني وتجعلني أحمل حقائب أفكاري بعيداً عن محطاته، هو اختلاف الفكر فحسب، كنت ارى في استشهاده إبادة جماعية لنا ونهايةً لكل شيء، وكان يراها من زاويته بداية حياته المشرفة وإرثنا الذي سيرتفع بنا عن عامة الناس، فأنا سأكون زوجة بطل الوطن، وأولادي هم أبناء حامي حدوده ودرعه الحصين.
لست امرأة جاهلة وأقل منه إيماناً أو حتى أقل انتماء وحباً لهذا الوطن المقهور.
أنا فقط .. امرأة لم تعرف غير وجهه في هذه الدنيا، فقد ولدت يتيمة الأب والأم، ولم أجد في غير حنانه وعطفه أباً وأما، هل أخطأت حين أردت المحافظة على حياته؟؟ فحتى خوفي لم يكن من أجلي فقط، بل رفقاً بتسعة اطفال ما تزال أقدامهم صغيرة لا تستطيع الغور في عالم يتلاعب به الكبار، أطفال يحملون اسمه، وربما هو الخوف من بقائي وحيدة في مجتمع لا أعرف كيفية التكيف والتمازج مع تقلباته
المتعبة.
أتذكر يومها توسلت به للبقاء، وأنا أخبره أني لا أملك غيره لأستظل به في هذه الدنيا، فهو خيمتي وستري وراحة جفوني المطمئنة!
كنت أرى حكايات حبه لنا تختبئ خلف هذا الواجب الذي يحمله على أكتافه، حتى أضاءت دمعة بين حوارنا الطويل ذلك اليوم، قال بعدها أرجوكِ عزيزتي اتركيني امضي لواجبي، ولا تُتعبي قلبي بهذا الكلام الذي سيقتل فرحة ،نصري، فأنت وطني الأول، وحلقة الوصل بين هذا العالم وذاك، أنا لا أريد أن أربح معركة واخسر أخرى، ولا أريد أن تكون هزيمتي على يديكِ أنتِ..
ثم أمسك يدي وقال أو أخبرك سراً؟
.. أنا أشعر بأنك درعي وحصني كما هو شعورك معي، فترينني استأمنك على حياة، وأرحل لأخرى، تاركاً بين يديك كل شيء، عرضي وبيتي وأولادي وأمي وكل ما أملك، منتقلاً من دار لدار،
فلا تكوني أنتِ من يكتب هزيمتي، بل كوني آخر انتصاراتي كما كنت أولها.
وعندما سقطت دمعتي على يديه ورأى استسلامي لعقيدة أنا آمنت بها قبله، ولكن الخوف خذلني
هذه المرة ايضاً.
سألني أو تحبين الحسين؟؟
أجبته: نعم روحي فداه !
وأردفت بتعجب: - ولكن، ما هذا السؤال؟!
قال: إذا بحقه عليك لا ترددي هذه الكلمات مرة أخرى على مسامعي، فأنا لست أتخلى عنكم بل أتمسك بكم بحمايتكم وحماية أعراض كل الغيارى الذين سبقوني، والذين سيلحقون بي في هذا الفاصل المهم بين العزة والهوان، فأنا أمضي بركب الحسين كما هو مقدر لي منذ لحظة مولدي، وأتركك برعاية الله مع أطفالي فهو خير المولى ونعم السند، لم أستطع قول أي شيء إلا جملة واحدة انتفضت على القلب ونعم بالله .. امض يا عبد الكاظم.. امض يا بطلي فأنا لن امنعك أبداً بعد اليوم.. ولكن أرجوك اقلب المعادلة واجعلها اكثر انصافاً واحمل النصر براية عودتك سالماً ...
ودعني ورحل، لم أره بعدها إلا جثماناً متأزراً بعلم الوطن.. نعم لقد عاد عبد الكاظم كما تمنيت، ولكن هذه المرة عاد بهيبة الأبطال.