أمّ الشهيد.. عهد الثوب الأحمر
2025/04/20
بقلم : أكرم علي الداووي
في زقاق صغير من أزقة البصرة، حيث تعبق رائحة الليمون وملح البحر، وتهدهد النخيل الأرواح بأغصانها، ولِدَ حسين جواد عذاب الكناني عام 1993م.
وُلد كأنه وعدٌ مؤجل، ونشأ بين أزقة المدينة مثل غصنٍ يشق طريقه نحو الضوء، لا يرضى بالظل ولا يلين للعاصفة....
كان حسين ابني، نعم، لكنه لم يكن لي وحدي، كان ابن العراق، ابن الحنين، وابن الثورة الساكنة في أعماق كل أمٍ فقدت حلمًا اسمه السلام.
تفتّح وعيه على صوت الأذان وصدى الحروب، وعلى حكاياتٍ عن الرجال الذين حملوا الأرض على أكتافهم ومضوا.
كَبُر، وفي عينيه شرارة من نورٍ لا يشبه نورنا، كان يحلم بشيء أبعد، بشهادة كأنها نبوءة ولادته.
في صباح يومٍ قائظ، بعد أن ودعته وهو يرتدي بزّته (بدلته) العسكرية، وترك نظراته في عينيّ ورحل.
ولم يطل البعد بعد أيام، في مساءٍ ساكن كقلب أم تنتظر، رنّ هاتفي; كان صوته دافئًا كعادته، يحمل شيئًا من التوديع وكثيراً من الرجاء.
قال لي بعد السلام والتحية...
- يا أمي، أريد منكِ عهداً.
- قلت: بماذا يا روحي؟
- قال: إذا نلتُ ما أتمناه، وجاؤوا بي شهيدًا، لا تحزني، لا تصرخي، لا تلبسي السواد...
- أريدكِ أن تفرحي وتنثري عليّ الورد، وتلبسي "الثوب الأحمر" فرحًا بي. أريده وعدًا يا أمي.
- أجبته وأنا أحبس الدمعة في قلبي: وعدٌ يا حسين... وعد.
أغلقت الهاتف ووضعت يدي على صدري، كأنني أطفئ نارًا اشتعلت فجأة. كنت أعرف، لا تسألني كيف، لكن قلب الأم يعرف ما لا تقوله الكلمات.
وبعد يومين، طرقوا بابي.
وجاءني حسين...
لكن هذه المرة محمولًا على الأكف، ملفوفًا بعلم، وتفوح من جسده رائحة الطين والبارود ونخيل البصرة الباسق.
كل شيء توقّف...
الزمن
الصوت
الهواء
أردت أن أصرخ، لكنني تذكّرت وعدي.
لم أبكِ، لم أرتدِ السواد، لم ألطم، ولم أُعلِن الحداد...
غسلتُ وجهه بدموعي بصمت، ونثرتُ عليه الورد كما أراد.
لكنّي لم أستطع أن ألبس الثوب الأحمر.
كان معلقًا في خزانتي، قد جهزته له حين يعود عريسًا، واحتفظت به عندما طلبه مني كرمزٍ لفرحه بالشهادة، مددت يدي إليه، ثمّ سحبتها.
قلبي لم يطاوعني.
كيف لي أن ألبس الأحمر، وأنا من فقدت نبضه؟
كيف أحتفل، وأنا نصفُ أمٍ ونصفُ ضوء؟
سامحني يا حسين... لقد فعلتُ كل ما طلبته، إلا ذلك.
الثوب الأحمر بقي هناك، معلقًا كأمنية مؤجلة، كشمسٍ تأبى الغروب، كلما نظرت إليه، قلت: "يا ليتني استطعت".
لكنني أعرف أنك تبتسم الآن...
تعذرني وتغمرني بدعائك، كما كنت تفعل دائمًا.
ولا تزال تهمس لي كل ليلة:
– شكراً يا أمي... الوفاء ليس لون الثوب، بل هو لون القلب.