أدب فتوى الدفاع المقدسة
الشّهيدُ السّعيدُ علي خيُّون جاسم البطّاط
2023/09/12

إنَّ العبادةَ للهِ الواحدِ الأحدِ هي عِلّةُ خَلقِ الإنسِ والجِنِّ، كما هُو واضحٌ وصريحٌ بنصِّ القُرآنِ الكريمِ، يقولُ الباري: (عز وجل) (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون) .
فالعبادةُ هي السّببُ المُوصلُ إلى الكمالِ، لكن بشرطها وشروطها، ومِن ذلك قَصْدُ القُربةِ ورضا الله(عز وجل)واتّباعُ إرادتِهِ، لا أن تكونَ مِن حيث مَشيئةِ العبدِ وإرادتِهِ، لذلك جاءتْ الأحكامُ الشرعيّةُ منقسمةً على تعبّديّةٍ كالصّلاة والصّيام وغيرها، وتوصّليّة، وهي الأعمالُ غير العباديّة، فإذا نوى العبدُ التقرّبَ بها إلى البارئ(عزوجل) صارتْ عِباديَّة.
فمَن تعبّدَ لله (بما فرضَ عليهِ مِن العبادات، وسعى لنيلِ الرّضا والقُربِ منهُ جلَّ شأنُهُ عن طريقِ خِدمةِ أوليائِه، طهُرتْ نفسُه وسَمتْ رُوحُه ونالتْ جُزءاً مِن كَمالِها، واستحقّ صاحبُها نيلَ العنايةِ والفيوضات الإلهيّة، ومِن أبسطِها أن يُلقيَ اللهُ في قلبِه مَحبَّةَ أوليائِه، ويُسبِّبَ له الأسبابَ لقضاءِ حوائجِ الصّالحينَ وعِبادهِ المُتّقينَ، وخِدمةِ المُؤمنينَ، وغيرِها من التوفيقات الإلهيّة.
إنّ مَنزلةَ مَن يُقدِّمُ هذهِ الخدماتِ بِنيَّةِ القُربةِ للخالقِ(عز وجل) هي مَنزلةٌ رفيعةٌ وعاليةٌ، وإذا اقترنتْ هذه الصورةُ بصورٍ أُخَر من طاعاتِ اللهِ(عز وجل) كالجهادِ في سَبيلهِ فإنَّها تكونُ مزيجاً من الصِّفاتِ المِثاليّةِ للشخصِ الذي يتّصفُ بها، وهي تُخلِّدُه وتَجعلُهُ صاحبَ سِيرةٍ عَطِرةٍ، ومِثالاً يُفتخرُ به على مَدارِ الأيامِ.
وقد ضَربَ لنا الرسولُ الكريم وأهلُ بيتِه الأطهارُ صلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليهم أروعَ الأمثلةِ، فهذا النبيُّ العظيمُ)صل اللهاااااا يَقولُ: «أنا وكافلُ اليتيمِ كهاتينِ في الجنَّةِ» وأشارَ بسبَّابتيهِ معاً مُلتصقتينِ دلالةً على المُجاورةِ، وكان بيتُه(عليه السلام) لا يخلو من اليتامى والأرامل، وكذلك كان الإمامُ عليّ(عليه السلام ظ)خَميصَ البَطنِ مُواساةً للضُّعفاءِ والمَحرومينَ «أأقنعُ مِن نَفسي بأنْ يُقالَ: أميرُ المؤمنينَ ولا أشاركهم في مَكارهِ الدّهرِ، أو أكونَ أسوةً لهُم في جُشوبَةِ العيشِ» ، وعندما يُسأل مولانا زين العابدين الإمامُ السجَّادُ(عليه السلام عن السّواد في ظَهرِ أبيه الإمام الحُسين(عليه السلام) يوم الطفِّ، يقولُ: «هذا ممّا كان ينقلُ مِن الجِرابِ على ظهرِه إلى منازلِ الأراملِ واليتامى والمساكين» ، هذا هو كمال العُبوديّةِ للهِ وكفالةِ عِيالهِ، وأروع صورِ التقرّبِ لساحةِ القُدسِ بِتجلِّي الصّفاتِ الإلهيَّةِ.
وها هُو أحدُ أشبالِ الدّوحةِ الهاشميَّة يُسطِّرُ أروعَ صُورِ النُّبلِ والقِيمِ الرفيعةِ، ويُقدّمُ العَطاءَ تِلوَ العَطاءَ حتَّى يَصلَ إلى أسمى مراحلِ الكمالِ، وهُو الجُودُ بالنفسِ، فيرقى إلى أعلى عِلّيّينَ مَع أجدادهِ الميامين، مُقدِماً على الشّهادةِ، وهُو السيَّدُ (علي خيُّون جاسم البَطَّاط).
ولدَ السيِّدُ علي خيُّون جاسم البطّاط سنة (1403هـ - 1983م)، في ناحية الهارثة، ونشأ في أُسرته التي تسكنُ منطقةَ الخُورةِ التابعةِ لمنطقةِ (أبو صخِير)، تَلقَّى تَعليمَهُ في منطقةِ (الخُورةِ) و(خَمسة ميل) إلى الدراسة المتوسّطة، وتَرعرعَ في كَنَفِ آبائِهِ وأبناءِ عُمومَتهُ، ونهلَ من أخلاقِهم العَلويّةِ، ونالَ من خِصالِهم السَّاميةِ، فهُم أبناءُ هذهِ الشجرةِ الطيّبةِ، وأبناءُ الأهوارِ، ذات الأصالةِ والفِطرةِ الصَّافيةِ، ومَنبعِ الطّيبِ والصّدقِ، فحَازَ بِعلوِّ هِمَّتهِ ورِفعة أخلاقه القرب منهم، واشتدّتْ علاقتُه بهم، فأصبح لديهم مضربَ المثل في الطّيبة وحُسن الخُلق وإغاثة الملهوف، مُقتدياً بأهل بيت العِصمة سلامُ الله عليهم.
ومن خلال ما عُرض من سِيرةِ الشّهيد السيِّد عليّ على لسان عَمِّه السيِّد حَسن، ذَكَر أنَّ له خَصلةً مُميَّزة ورِثها مِن أجداده الأئمّة الطاهرين، وهي الخِدمة بِكُلِّ ما تشتمل عليه من صُورٍ ذكرناها مُسبقاً، إذْ كانَ الشّهيد مُلتزماً بخدمةِ أهل البيت(عليهم السلام)، فقد أسَّسَ موكب أبي الفضلِ العبّاسِ(علية السلام) لخِدمةِ زُوار الأربعين، وخدمة أبناء منطقتِهِ، ومِن مُظاهر تَمسُّك الشّهيد بهذا الأمر وصيَّتُه التي أكَّد لأهله في أحد جوانبها ضرورةَ خِدمة أهل البيت، والشعائر الحُسينيَّة، وخِدمة الناس.
لقد لبَّى الشّهيد السّعيد علي خيّون البطّاط نِداءَ المَرجعيَّة العُليا مُنذ صُدوره مع عمِّه السيِّد مُسلم البطّاط، الذي مَنعه كِبرُ سِنِّه وضعف صِحَّته مِن إكمال مسيرته الجهاديَّة، فراح الشّهيدُ يَتدرّبُ على الأسلحة المُتوسّطة في البصرة مع خبرته بها سابقاً، وبعدها دخل في ساحات الجهاد في قاطع اليُوسفيَّة وجُرف النصر.
كان من ضِمن مَهام الشّهيد نَقلُ العتاد والسّلاح والمُقاتلين في حالة التعّرض، وإزالة العُبوات المُفخَّخة، والألغام من البُيوت والشَّوارع، وغيرها.
خاضَ كثيراً مِن المعارك، منها معارك قاطع اليوسفيَّة وجُرف النصر، سطَّر خلالها بسالةً عَلويَّةً حُسينيَّةً قَلَّ نَظيرها، وأقدم على أصعب المَهام، فهُو شِبلُ المَيامين، ولمّا كانتْ علاقتُه الوطيدةُ بأهل البيت(عليهم السلام) سمتَهُ البارزةَ عرجتْ روحُه إلى النعيم بقربهم، وحَظيَ بالسّعادةِ الأبديَّةِ في أيَّامِ حُزنهم وعَزائهم، إذْ استُشهدَ يَوم الثاني من مُحرَّم الحرام عام 1436هـ، المُوافق يَوم الثامن من تشرين الأوّل سنة 2014م، وأُقيم له تشييعٌ وعزاءٌ مَهيبٌ في منطقة الخُورة، وكان سببُ استشهاده انفجارَ منزلٍ مُفخَّخٍ في جُرف النصر بعد دُخولهم لإزالة العُبوات المُفخَّخةِ منه، فأُصيب بِجروحٍ بليغةٍ نُقِلَ على إثرها إلى العلاج في مُستشفى الكاظميَّة ومَدينة الطبِّ في بغداد.
وجديرٌ بالذكرِ أنَّ أهلَ الشَّهيد قد تَوسَّموا في ولدهم أنَّه سيمضي شهيداً في سبيل اللهِ، وقد تنبَّأَ هُو بذلك.
فالسّلامُ عليك أيَّها الشّهيدُ علي، يا مَن كُنتَ تَحمل هَمَّ الخِدمةِ كأجدادك الطاهرينَ، يوم ولدتَ ويوم استُشهدتَ ويوم تُبعثُ حيّاً.


أحمد وادي صالح الموسويّ