أُمَيَّة الجُبارة.. حين نطقت الأرض بلسان امرأة
2025/06/23
:. اكرم علي
في صباحٍ مشحونٍ برائحة البارود، وفي زمنٍ عزّت فيه المواقف، نهضت امرأة من تراب "العلم" لتصير وطناً تمشي على قدميها، وصوتاً يخترق صمت الجبناء. لم تكن الشهيدة أمية ناجي الجبارة امرأةً عابرة في سجل الأحداث، بل كانت سيدةً من طرازٍ استثنائي، حين اختارت أن تكتب تاريخها بدمها، لا بحبر المؤتمرات، وأن تعيش شامخة في زمن الانحناء.
في الثاني والعشرين من حزيران لعام 2014، ارتقت أمية الجبارة، ولكنها لم تسقط، بل ارتفعت شهيدةً، خالدةً في ذاكرة الوطن. وقفت على خط النار كأنها نسيبة الأنصارية عائدة من بطون السيرة، تتوشح الحجاب وتنتعل الإرادة، حاملة بندقيتها كما تحتضن الأمّ وليدها، تغطي الطهر بعباءتها، وتكسو العزّ بوقفتها.
اثنا عشر يوماً من الحصار والجوع والنار، لم تزلزلها صيحات الموت، ولم تضعفها خيانة السياسيين الهاربين إلى فنادق أربيل وعمان. كانت تقف في الخط الأول، تصرخ بالأهازيج وتشد من أزر الرجال، تسعف جريحاً، وتطلق الرصاص على فلول الظلام، وتكتب بالدم: "لن نترك الأرض حتى لو خذلنا الجميع".
ولدت الشهيدة عام 1974 في ناحية العلم، وترعرعت على مبادئ الشجاعة والكرامة. هي ابنة الشيخ الشهيد ناجي الجبارة، الذي اختطفه تنظيم القاعدة بعد عودته من الحج عام 2006، وأعدمه بلا ذنب سوى صدقه. درست في معهد المعلمات، ثم التحقت بكلية القانون في جامعة تكريت، وتخرجت عام 2011، لكنها لم تقف عند حدود الورق والقوانين، بل تجاوزتها لتكون صوت المرأة، ومدافعةً شرسة عن حقوق الإنسان عبر منظمة "المرأة العراقية والعربية"، التي أدارتها بكل تفانٍ منذ عام 2005.
سجّلت عائلتها سطور الشهادة واحداً تلو الآخر، فشقيقها سقط شهيداً في سامراء عام 2007، وعمّها الشيخ عبد الله الجبارة استُشهد عام 2011 أثناء تصديه لاقتحام القاعدة لمبنى مجلس محافظة صلاح الدين، حتى كانت خاتمة البطولة بـأمية، الفارسة التي واجهت داعش يوم داهمت فلولهم ناحية العلم.
كانت لا تترك الساتر الأمامي، تصرخ في المقاتلين: "هذا وطنكم، فلا تتركوه"، وتستنهض فيهم دماءً كادت أن تجف من التعب والخذلان. ولم تكن تحمل البندقية فقط، بل كانت تحمل الوجدان، وتحرس بقايا الكرامة حين فرّ الآخرون.
سقطت أمية، ولكنها لم تمت. بقيت حيةً في ضمير كل غيور، وفي صوت كل امرأة عراقية تنادي بالعز، وفي وجدان أبناء العلم الذين لا يزالون يذكرونها عند كل فجر، ويقفون أمام قبرها كما يقف الجنود أمام القائد.
لم تكن أمية امرأة، بل كانت أُمّة.