الشهيد السعيد أركان عبد الهادي محسن الروميّ
2023/09/19
بيّنَ عددٌ مِن آي القُرآنِ الكريمِ منزلةَ الشَّهيد وعُلوَّ مقامه عند الله تبارك وتعالى بأجمل التعابير، التي أظهرتْ من خلالها وصوله إلى أسمى مراتب الكمال، وبلوغه أعلى درجات الرحمة والعناية الربّانيَّة، ومنها قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، وقوله (عز وجل)( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ، وقوله جلَّ ذكرُه: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ، وهكذا نرى الآيات القُرآنيّة وهي تُجاهرُ وتُصرِّحُ بما ادَّخره اللهُ تبارك وتعالى من المراتب السَّامية للشّهيد.
إنَّ الشّهادة ـ كما يبدو من هذه الآيات القرآنيّة ـ هي إحدى تجلِّيات الرَّحمة الإلهيَّة، ووسام لا يهبه الله(عز وجل) إلّا للخاصَّة من عباده، كيف لا؟! وقد باع الشُّهداء أنفسَهم لله تعالى، وبذلوا أروحهم في سبيل ربّهم، وقد قال الله تعالى عنهم: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، ومن أولئك الشُّهداء السُّعداء الذين جادوا بأنفسهم من أجل الدّين والمُقدَّساتِ الشَّهيد السَّعيد (أركان عبد الهادي محسن الروميّ)، من مواليد (1983م)، أحد سَكَنَة قضاء المْدَيْنَة.
انضمَّ أركان إلى صفوف المُجاهدينَ من الحشد الشعبيّ في نهاية شهر آب من سنة (2014م)، بعد صُدور فتوى الجهاد الكِفائيّ لسماحة آية العظمى السَّيد السيستانيّ (أدام الله ظِلّه الوارف)، وارتفعتْ همّته لمحاربة الدواعش - أعداء الدّين والإنسانيّة- بعد أنْ رأى توافد قوافل الشُّهداء الأبطال من المشاركين بالحشد الشعبيّ، ونخصُّ بالذكر الشَّهيدينِ السيِّد أحمد مالك الموسويّ، والسيِّد كاظم الموسوي، اللّذين استُشهدا في منطقة جُرف النصر بتأريخ (26/8/2014م)، وبعد انتهاء مجلس عزاء الشّهيدين قرَّر أنْ يلتحق بصفوف المُقاومين مع عمِّه أحمد محسن، وقد زادَه إصراراً على ملاقاة الحُتوف ما عَرَفَه من الفضل الكبير الذي يحوزه المُقاتل حينما ينال الشّهادة، فقد ذكر الله تبارك وتعالى هذه المقامات الكريمة التي أحلَّه فيها في دار البقاء كي يتنافس من أجلها المؤمنونَ، ويعمل لها العاملون، فقال: )وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ( .
لم يكن قرار التحاق البطل أركان بالحشد الشعبيّ هو القرار الوحيد الذي اتخذه، بل قرَّر أيضاً التوجّه مباشرة إلى الصفوفِ الأماميّة للمعركة، وبالفعل دخل ساحة الحرب واشتبك مع الدواعش، وفي إحدى المعارك تقدَّم أركان ومن معه من أبطال الحشد الشعبيّ وسيطروا على أحد السّواتر الأماميّة، الذي كان بحوزة الدواعش سابقاً، وعلى الرغم من شِدَّة المعارك حافظ ومَن معه على ذلك السّاتر لمدّة ثلاثة أيّام، لكن لتوافر ظروفٍ معيّنةٍ طلب القادة العسكريّين مِن أركان ومَن معه أن ينسحبُوا، لكنّه أبى الانسحاب مِن موقعه، فحاول عمُّه أحمد أنْ يَثنيَه عن رأيه لكنَّه ما استجاب له فاتّصلَ أحمد بعمِّه الآخر أسعد - الذي كان في البيت- كي يُحاولَ إقناعه بالانسحاب مِن مكانه، فأجابه الشَّهيد قائلاً: (عمِّي أسعد عشرين كيلو ويدخلونَ كربلاء، والله ما أخلّيهم، ومكاني ما أنطيه)، وبهذه الكلمات الخالدات بَانَ مقدار غيرته على دينه ومقدَّساته، ومدى حُبِّه الإمام الحُسين(عليه السلام) وارتباطه به، وبالفعل ثَبَتَ في مكانه الذي رفض تسليمه حتَّى نال وسام الشّهادة الذي استحقّه بجدارة.
لم يكن حُبُّه الإمام الحُسين(عليه السلام) وليدَ السّاعة، أو حبّاً بالقول فقط، بل إنّه ترجم حُبَّه هذا على أرض الواقع، وقبل صدور فتوى الجهاد الكفائيّ، إذْ كان من خُدّام زوّار الإمام الحُسين(عليه السلام) في موكب أهالي المْدَيْنَة في منطقة الدرَّاجي أيّام زياراتِ الإمام الحُسين(عليه السلام) المخصوصة، وقد خَدَمَ أركان مع والده(رحمه الله) في مدينة كربلاء المُقدَّسة، وكان من الزائرينَ مشياً على الأقدام من مدينة البصرة إلى كربلاء أيّام الزيارة الأربعينيَّة.
استشهد البطل أركان محسن في يوم السبت الموافق (6/9/2014م)، وقد كان التحاقه -أيضاً- في يوم السبت المصادف(26/8/2014م)، فاختزلتْ هذه الأيّامُ القليلةُ، التي امتلأت غيرةً وحميّةً ومواقفَ شُجاعةً دُوّنتْ في سجلِّ الأبطال، حياةَ الشّهيدِ كاملةً.
حظي الشَّهيدُ السَّعيدُ بتشييعٍ مَهيبٍ شارك فيه مُعظم أهالي المنطقة، فزُفَّ كـ(عريسٍ) في ليلة عُرسه ـ إذْ لم يكن متزوِّجاً ـ وألقى المُحبُّون الحلوى « الجكليت» على جنازته الطاهرة،
وأدَّى له التحيّةَ العسكريّةَ أحدُ ضُبَّاط الشُّرطة ومَن معه من المراتب؛ إجلالاً واحتراماً له وتقديراً لعمله البطوليّ الذي جازاه الله عليه في الدُّنيا قبل الآخرة، فرحمه اللهُ تعالى، وأنال أهلَه ومحبِّيه شفاعتَه يوم القيامة، إنَّه مجيبُ الدُّعاء.
هاني نمر