أدب فتوى الدفاع المقدسة
الشهيد السعيد مِدحت مانع عبد الحسين السَّلَميّ
2023/09/30
الوفاءُ بالعهدِ والثّباتُ على المبادئ سِمَةٌ للمؤمنينَ الذينَ وصفوا في الخطابِ القرآنيّ بأنَّهم خيرُ البريّة، إذْ اقتَرَنَ إيمانُهم بالعملِ الصَّالحِ، والتمسُّك بعُرى الإسلام (إنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)، هكذا عرَّفهم القُرآنُ، وهذا هو وصفُهم في التوراةِ والإنجيلِ، وقد ادَّخرَهم اللهُ لحملِ الأمانةِ في الدِّفاع عن حياضِ الإسلامِ والمُقدَّسات، وقد أدَّى أنصارُ الدِّينِ وأتباعُ بيعةِ إمامِ الموحّدين ما حُمِّلوا، ووفوا بعقدهم «عقدِ الإيمانِ والولايةِ للهِ»، وثَبَتوا أمام كُلِّ عواصف الجهلِ والتعسُّف والكفر، وكَشفُوا ببطولاتهم وثباتهم في سوحِ الجهاد والنِّزال أنَّهم جُندُ الكرَّارِ في الحروب، وأنَّ فيهم إباءَ الإمامِ الحُسين، وشجاعة العبَّاس وبأسه في وجوه الأعداء، فها هم الأحرارُ في دُنياهم، أصحابُ الحقِّ وأتباعه يُذيقُونَ أعداءَهم مَرارةَ الهزيمةِ، ويُجرِّعونهم مِن كأسِ الذلِّ والمهانة، في كُلِّ ساحات الوغى التي دخلوها فطهَّروها من دَنس أعداء الله، وقد كتبَ اللهُ على أيديهم النصر، فمنهم مَن قضى نحبَه فائزاً بحسنى الشَّهادةِ، ومنهم مَن ينتظرُ تمامَ النّصر أو الفوز بجوار الطاهرينَ، ولم يحيدُوا عن ذلك ولم يُبدِّلوا تبديلاً.
ومِن هؤلاءِ الرِّجال الذين وفَوا ببيعتهم، وأتمُّوا عقدَ الولاء، وهبُّوا طوعاً لأمر المرجعيَّة العُليا، الشَّهيد (مِدحت مانع عبد الحسين السَّلَميّ) المولود عام
(1400هـ -1980م) في البصرة ـ قضاء شطِّ العرب.
عُرِف الشَّهيدُ بِحبِّه لمساعدةِ النَّاس وحلِّ مشاكلهم وقضاء حوائجهم، وله مشاركاتٌ فعَّالةٌ في حلِّ النزاعاتِ العشائريَّةِ؛ لأنَّه كان أحدَ شيوخ عشيرة «البو سويلم»، على الرُّغم مِن صِغَر سِنِّه، لكنَّه استحقَّ ذلك اللّقب بجدارةٍ، فكان يمتلكُ شخصيَّةً اجتماعيَّةً محبَّبةً وطيّبةً وقياديَّةً في الوقت نفسِه، أهَّلته أن يحظى بالاحترام والتقدير لدى أفراد أسرتِه وعشيرتِه، بل شيوخ العشّائر الذينَ كانتْ تربطُه بهم صلةٌ وثيقةٌ لمعرفتهم بشهامته وطيب أخلاقه.
ومِن المؤكّد أنَّ نيلَ شرف الشَّهادة وسامٌ عظيمٌ، وأنَّه لا يأتي عن فراغٍ؛ لأنَّ هذه المنزلة لا ينالها إلَّا ذو حظٍّ عظيمٍ، فهذا الشرف يلزم مقدِّماتٍ تُهيئُّ الإنسان لنيل هذا الفلاح في الدّنيا والآخرة، ومِن هذه المقدِّمات وأفضلها خدمة الإمام الحُسين(عليه السلام)، فقد حَصَلَ الشّهيدُ على هذا الشرف، إذْ كان يخدم في أيَّام المحرَّم، وفي أيَّام زيارة الأربعين، وكان له صندوقٌ في البيت قدْ خصّصه لسيِّد الشّهداء(عليه السلام) يضع فيه المال ممَّا أفاض اللهُ عليه من الرزق الحلال على طول السّنة، وعندما يأتي موسم الخدمة الحسينيَّة يفتحُ ذلك الصّندوق ويبذل كلَّ ما فيه في سبيله، فكان الشَّهيد يخدم في العديد من المواكب، إذْ لم تقتصر خدمتُه على موكبٍ واحدٍ.
فهنيئاً للشَّهيد هذا العطاء لمولاه الحُسين(عليه السلام)، وهذا الشرف في الدّنيا، المتبوع بشرف الجوار في الآخرة عند مليكٍ مقتدرٍ ورضوانٍ من الله أكبر، وهنيئاً له ختمُ عمره المبارك في الدِّفاع عن موطن الأنبياء والأوصياء، وقد بذل مهجته مِن أجل صدِّ هذه الهجمة البربريَّة التي جاءتْ من وراء الحدود، وأعانهم عليها ضعاف النفوس من الداخل، تاركاً وراءه خمسةَ أطفالٍ وكلَّ مصالحِه التي تربطه بالدّنيا، ملتحِقاً بسوحِ القتال هو وأبناء عمومتِه، رافعاً راية الحقِّ ضدَّ الباطل، وقد كُلِّفَ بأنْ يكونَ آمرَ سريَّةٍ؛ لشجاعته وخبرته العسكريَّة؛ لأنَّه كان عسكريَّاً سابقاً، فكان أولُّ التحاقٍ له إلى منطقة الإسحاقيّ، فخاض عِدَّة معارك هناك، أثبتَ فيها شجاعةً جعلتْ منه محوراً لكلِّ أفراد سريّته، وأنموذجاً يُقتدى به في الإقدام ودكِّ معاقل الدواعش، وقد فتح اللهُ على يديه مع أقرانه أماكن عديدة.
وَذُكِرَ في سيرة الشَّهيد أنَّه كان يشتري السّلاح والعتاد على حسابه الخاصّ، وأنّ راتبه الذي يستلمه مِن الحشد كان يُعطيه للفقراءِ والمحتاجينَ، وذُكِر –أيضاً- بأنَّه قام بشراء سلاح (أُحاديّة، وناضور ليليّ، وجهاز حاسوبٍ محمولٍ) لحاجة المجاهدينَ إليها.
وفي التحاقه الأخير أُنيطتْ به مهمَّةُ تحرير منطقة الرُّميلات التابعة لناحية الإسحاقي مع إخوته من المجاهدينَ، وكان الشّهيد بكامل جهوزيّته واستعداداته لملاقاة الحتوف، فقد اغتسلَ غُسل الشَّهادة، وارتدى بدلةً عسكريةً جديدةً يرتديها لأوّل مرّةٍ، وقد ذهب إلى ساحة المعركة صائماً تطوّعاً لله تعالى، وقد قصد الشَّهادة، وعند الهجوم تمَّ تحقيق الأهداف المنشودة كافَّة من دون تقديم أيِّ خسائر، وشاء اللهُ أن يرتقيَ الشَّيخُ الشَّهيد إلى جواره، وأن يدخلَ جنّته، فغدر به قنَّاصٌ داعشيٌّ خبيثٌ كان يتعقَّبُه، فأصابه في قدمه، ثُمَّ تلقَّى إصابةً أُخرى في وجهه، وعندها أحسَّ الشّهيدُ بضعفٍ في بدنه، وأنَّه سيعرج إلى بارئه الكريم خلال لحظاتٍ، فاتَّكأ على بندقيَّته، فأصابَه اللَّعينُ برصاصةٍ ثالثةٍ في خاصرته، وكان ابنُ أخيه عمَّار بالقرب منه، فسقط بين يديه، ثُمَّ تلفَّظ الشّهادتين، وفاضتْ روحه الطاهرة معانقةً سماء المجد بتأريخ( 2/1/2015م).
حظي الشَّهيد بتشييعٍ مهيبٍ تمنّاه كلُّ مَن حضر من رفقائه، وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على حبِّ النَّاس لهذا الشَّهيد ولمواقفه التي تركها في نفوس الآخرينَ.
فسلامٌ عليك يامَن صدقتَ الوعدَ وثبتَّ على العهد، وحشرك اللهُ مع أصحاب الإمام الحُسين (عليه السلام)، الذينَ بذلُوا مهجَهم دون الحُسين (عليه السلام).

عبد العزيزمسلم