الشّهيدُ السّعيدُ يحيى ناجح مطر محمّد التميميّ
2023/10/05
تمتاز الحياة البشريَّة بوجود عدَّة علاقات بين أفراد أبناء البشر تمثّل عاملاً مساعداً على تماسك المجتمع وبقائه ونموِّه وتطوّره؛ لما تُسبِّبه هذه العلاقات من الانسجام والتفاهم والتعاون والتآزر بين أفراد المجتمعِ الواحد، فيكمِّل بعضُهم بعضاً، ويسدُّ بعضُهم نقصَ بعضٍ ويتمِّمه حتَّى يكونَ الكلُّ في تكاملٍ ورُقيٍّ مستمرّينِ.
ومِن أبرز تلك العلاقات، الصّداقة، فهي تَعملُ على تماسك المجتمعِ وتوحُّدِهِ، وإذابة الفروقات بين طبقاتِهِ، وهي مِن الدِّعامات الفاعلة في نموِّه وتطوّره.
وفي التأريخ عِدَّةُ مصاديق لهذه الصّداقة مثّلتْ نبراساً يُحتذى بين الأجيال، وقدوةً يُهتدى بهديها؛ لما جسَّدته من مواقف الشّرف والعطاء والتضحية والفداء.
ومن تلك النماذج ما نجده في معركة الطفِّ الخالدة التي سقط فيها عددٌ من الأصحابِ وهم يقاتلون جنباً إلى جنبٍ بين يدي سيِّد الشّهداء(عليه السلام )، حتَّى عانقتْ أرواحُهم الحورَ العين في جنّات ربِّ العالمين في آنٍ واحدٍ.
ومن نماذج هؤلاء المتحابّونَ في الله في عصرنا الحاضر، وتحديداً في معركة الحقِّ والشَّرف بين أبناء البلد الحبيب وأولئك الغرباء (الدواعش)، فقد تواترت الأخبار لترويَ لنا أروَعَ صور التحابِّ في الله، فالأخُ مع أخيه، والأبُ مع ابنه، والعمُّ مع ابن أخيه، والصّديق مع صديقه.
ومن تلك الصّور الرائعة ما تجَسَّد في شخصِ الشَّهيد السَّعيد (يحيى ناجح مطر محمّد التميميّ)، الذي كان يُقاتلُ مع أخيه مالك، وصديق عمره وابن عمَّته علي، الذي استشهد معه.
ولد الشَّهيد في(1412هـ -سنة 1992م) في قضاء أبي الخصيب، كوت فريح، وتدرَّج في دراسته الابتدائيَّة في مدارسها، وبلغ مرحلة الدراسة المتوسِّطة إلى الصّفِّ الثَّالث المتوسّط، لكنَّه اضطرّ إلى ترك الدراسة بسبب ضيق المعيشة، فانخرط في الأعمال الحرَّة لإعانة والده في تدبير متطلّبات الأسرة، فكان ولداً بارَّاً بوالديه، حَسنَ التعامل معهما، ومع أهل بيته، بل حتَّى مع سائر أهل منطقته وأصدقائه.
عمِل في البناء، وكان له (قالبٌ) من الخشب يستعملُه في صبِّ سقوف المنازل، وكان معه ابن عمَّته وصديقه الأقرب علي، واستمرَّ في هذا العمل بضعَ سنواتٍ حتَّى أجاده، وعُرف بالإخلاص فيه، فدرَّ عليه ربحاً جيّداً.
عُرف الشَّهيد يحيى بالالتزام الدينيّ، فكان مُحافظاً على عبادته من الصَّلاة والصَّوم في شهر رمضان، وإلى جانب ذلك كان كثير الزيارة للمراقد المُقدَّسة لأهل البيت(عليهم السلام) فقد سار إلى زيارتهم في الزيارة المشهورة عِدَّة سنوات، وكان شديد التعلّق بخدمة زُوَّار الإمامِ الحُسين (عليه السلام) في مواكب الخدمة، لهذا نمتْ روحُه على نهج الإمام الحُسين(عليه السلام) في رفض الظلم والعبوديَّة للطّغاة، حتَّى إنَّه كان يُظهِر ذلك في حواره مع والده حول ظُلم الطاغية صدّام للشعب العراقيّ، فكان يُجيبه أنَّ صدَّاماً إنّما ظلم جيلكم بسبب مداهنة بعضِهم؛ ولأنَّه لم يكن يرى أحداً يقف ضِدَّه، فكان يلوم الكِبار، فيقولُ أنتم تخافونَ مِن الموت ولا تقاتلون الظالم، ومع أنَّ الموت مكتوبٌ على كلِّ إنسان، لذلك توقَّع والده بعد صدور الفتوى أنَّه سيلتحق إلى الجهاد لأنَّه كان يمتلك روحاً حماسيَّة جهاديَّة، وفعلاً ذهب إلى التدرّب لمدّة عشرة أيَّام مع أخيه مالك وابن عمَّته علي إلى مُعسكر الشّعيبة، ثُمَّ التحقوا بالحشد الشعبيِّ، وكان الشَّهيد يتنبّأ لنفسه بالشَّهادة، وكان يقول لأصدقائه وأولاد عمومته إنِّي لن ألبث معكم طويلاً، وإنِّي سأستشهد خلال هذه الأيّام ولن أعود معكم، ولكنَّه كان يُخفي هذا على أهله.
وكان معه من ضمن المُقاتلينَ في ساحة القتال أخوه، فضلاً عن أقاربه من المنطقة، وكان عددهم قرابة الأربعين شخصاً من محلَّةٍ واحدةٍ، وعندما التحقوا بساحة المعركة، وبالتحديد في منطقة (النباعي)، نُشِروا على عِدَّةِ نِقاطٍ، وكان الشَّهيد يحيى مع ابن عمَّته علي في النقطة نفسها، وأخوه مالك في نقطةٍ قريبةٍ منهم، وفي أثناء المعركة طلب آمر مجموعة الشَّهيد علي أنْ يتقدّم أربعةُ أشخاصٍ لِمُداهمةِ أحد المنازل، فتقدَّم ابن عمَّة الشَّهيد، ثُمَّ تقدّم لمرافقته الشَّهيد يحيى، إلّا أنَّ قائد السريَّة طلب من الشَّهيد يحيى أنْ يتأخّر؛ لأنَّه كان قد فقد اثنين مِن إخوته، فلم يُرد القائد أن تُثكل به أُمُّه أيضاً، إلَّا أنَّه أصرَّ أن يكونَ إلى جانب صديقه وابن عمَّته علي، إذْ كانتْ تربطهما علاقةٌ حميمةٌ، وهنا تجسّدتْ روح الصّداقة بينهما فرفضا أنْ يفترقا، وبالفعل تقدّم علي ويحيى ومعهما شخصان آخران إلى المنزل، واقتحموه إلَّا أنَّه كان فخّاً لهم، إذْ تَمَّ قصفُ المنزل بالهاون، وسقط الجميع جرحى، فاتصل يحيى بأخيه مالك وطلب منه إنقاذه، إذْ كان عاجزاً عن الحركة والخروج من المنزل، فذهب مالك برفقة بعض المجاهدين لإنقاذهم إلَّا أنَّ الدواعش حاصروا المنزل قبلهم وقتلوا كُلَّ مَن كان فيه، ما اضطرَّ فريق الإنقاذ إلى الانسحاب، ولم يُعثَر على جثثهم الطاهرة إلى الآن، وهذا ما خلّف حزناً شديداً في نفوس أبويه وإخوته، على الرُّغم مِن احتسابهم إيَّاه شهيداً عند الله سبحانه وفرحهم به؛ لأنَّه نال الدرجة العالية في جِنان الخلد، وقد كان استشهادُه بعد التحاقه بتسعةِ أيّام، تحديداً في يوم(18/7/2014م).
وسيبقى الشَّهيد يحيى والشَّهيد علي عنواناً للأُخوَّةِ الخالدة، في محبَّة الله ومحبَّة رسوله وآله الطيّبينَ الطاهرينَ.
ضمير لفتة