أدب فتوى الدفاع المقدسة
الشّهيدُ السّعيدُ سيِّدُ كاظم سيِّد باقر الحلو
2023/10/11

علّةُ خلقِ الإنسانِ أن يَصلَ إلى الكمالِ بالعِبوديّةِ التي ترقى به ليكونَ مصداقَ خليفةِ الله، وهذا ماحكاهُ القرآنُ في واقعةٍ جرت في عالم المَلكوت قبل خلقِ آدم، قالَ تعالى للملائكة:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ، لهذا وجبَ على كُلِّ إنسانٍ أن يَتدرّجَ في الرُّقيِّ والكمالِ الذي له مراتبُ وفيه مقدّماتٌ، ومِن مُقدّماته الإيمان والتسليم لله تعالى ولرسوله الكريم وللوصيِّ بالحقِّ مِن بعده، والإخلاص في النيّة والعمل، والتمسّك بالعقيدةِ والدّفاع عنها؛ لذا نجدُ أنَّ النبيَّ الأعظم وعترته الطاهرة أفنَوا حياتهم الماديَّة للوصولِ إلى هذه المَراتب العُليا وتثبيتها، وقد مَدحَ القرآن موقفَ العِترة الطاهرة في تَدعيمِ هذهِ المبادئ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، وقد تَلقَّى المؤمنونَ هذا التفاني من النبيّ(صلى الله عليه واله وسلم)، ومِن أهل بيته وصحبه المنتجبينَ بالتأسّي والاقتداء بها، فها هي قوافلُ المُجاهدينَ تَسيرُ على هذه المَبادئِ وتُسطِّرُ أعلى مَراحل الرُّقيِّ والإيثار، وتُقدِّمُ القُربان تِلو القُربان نُجوماً ساطعاتٍ في مَسيرة الكمال، ومِن هؤلاء شبلٌ من أشبالِ الدّوحةِ الهاشميَّة، وهُو السَّيِّد (كاظم سيِّد باقر الحلو).
ولد الشَّهيد السَّعيد سنة( 1407هـ -1987م)، في البصرة، قضاء المْدَيْنَة، متزوِّجٌ وله ثلاثةُ أبناءٍ، احتلَّ موقعاً مُتميّزاً بين إخوته وعُمومته وأبناء منطقته؛ لكَونه حُسينيّاً، وشاعراً تميَّز بأهازيجه في الميادين الدينيّة والعشائريّة، كما كان صاحب خُلقٍ عالٍ، فقد كان متسامحاً مع الجميع، وقد أهّلتْه هذه الصِّفاتُ التي كان يَتمتَّعُ بها لأنْ يكونَ من المبادرينَ للدِّفاع عن المُقدَّساتِ، إذْ سَارعَ عند سماعه نداء الجهاد إلى جمع أكبر عددٍ مِن المتطوّعينَ، مشجِّعاً إيّاهم بهِتافاته الحماسيّة، وقد قادهم في تَظاهرةٍ كبيرةٍ جابتْ شَوارع القضاء، وكان يَرفعُ صوتَه، (لا مكانَ لنا هُنا حتَّى نَكسرَ الأعداءَ ونَدحرَهم)، وبَعد أن عَادَ مِن التظاهرة اتخذ السيِّد قَراراً بتشكيل فوجٍ قتاليٍّ، مُعتمداً في تَجهيزِهِ على نَفقتِهِ الخاصّةِ، فقد كان الشّهيدُ ميسورَ الحال قادراً على تجهيز مثل هذا التشكيل، إذْ كان له مَوكبٌ خدميٌّ أسَّسه تحت عنوان (موكب المْدَيْنَة)، يبدأ أعمالَه مِن اليومِ الأوّلِ مِن صَفر، فيُقدِّم فيه الخَدمات للزائرينَ، ومِن فَرط حبِّه الإمامَ الحُسين(عليه السلام)وزائريه وصَلَ به الأمرُ إلى أنْ يَنامَ في الشّارعِ أمامَهم ليستجيبوا لضيافته، وكان يَنقلهُم مِن مَكانِ الموكبِ إلى (حُسينيَّة جدِّه سيِّد رحمة) للمبيتِ، وبَعدَ انقطاع الزوّار يَنقلُ مَوكبَه إلى مَنطقةِ الدرَّاجِي في الناصريَّةِ، وقد شَكَّلَ علاقةً حميميّة مَع أهالي الدرَّاجيّ، الذين أحبُّوه لخُلقه الرفيع، وكعادته سنوياً بَعد أن يُتمَّ خِدمَة الزُّوار يَتوجّه قُبيل زِيارةِ الأربعين إلى مَدينةِ كربلاء المُقدّسة لزيارة جَدِّه الإمام الحُسينِ(عليه السلام).
شَرعَ بالتدريبِ مع فوجِه على سَدَّةِ المْدَيْنَةِ، وبَذلَ كثيراً مِن مالهِ الخاصِّ في سَبيلِ تَدريبِ عددٍ من المُقاتلينَ وتَجهيزِهم، وبَعدَ إكمالِ فَترةِ التدريبِ التَحقَ إلى سامراء بِرفقةِ أصدقائهِ، وبالتحديدِ في حَرمِ الإمامينِ العَسكريّينِ، وبَقي هُناكَ فَترةً يَعملُ في التفتيشِ، فَقالَ لأصدقائِهِ: هَذا المَكانُ لا يُشعرني بكوني مقاتلاً، فقَفَل راجعاً إلى بيته، وحدّثَ والدتَهُ وزوجتَهُ بأمنيةِ والدِه بالشّهادة، وسعى لإقناعهم بأنْ يكونَ هو شهيد الأمنية، فهو امتدادٌ لأبيه، فاقتَنعَتا كلتاهما وشجَّعتَاهُ على تحقيق رغبة والده، وبَعدَ لِقائهِ بأعمامِهِ أوصَاهُم بأهلِهِ خيراً، فأشار عليهِ عَمُّهُ السيّدُ «فاضل» أنْ يُنهيَ جَميعَ مُتعلّقاتهِ الماليَّة، التي كانت لَهُ على النَّاسِ، حتى يكونَ نقيَّ الرّوحِ مِن كَدرِ الدُّنيا، وبَعد أنْ أكملَ كُلَّ هذهِ الأُمورِ ودَّعَ عِيالَهُ وأهلَ بيتهِ، وتَوجَّهَ إلى مدينةِ كربلاءِ المُقدّسةِ إلى جَدِّهِ الإمامِ الحُسينِ(عليه السلام)، وبعدَ إكمالِ الزيارةِ توجَّهِ إلى الضريحِ الشّريفِ متوسِّلاً بسيِّد الشُّهداء(عليه السلام) كي يشفعَ له عند الله لنيل الشَّهادة، وبَعدَ إتمامه الزّيارةَ توجَّه إلى جُرفِ النصرِ، وشارك في القِتالِ ضِدّ الدواعش، وفي اليومِ الثالثِ قادَ مَع مَجموعتهِ التي تَتكوّنُ مِن أحدَ عشرَ مُجاهداً هجوماً على العدوِّ، وهناك تَحقّق دُعاؤه، فنَالَ الشَّهادةَ مع أربعةٍ مِن أصدقائه، وجُرحَ الباقونَ، وكانَ استشهادُه(رحمه الله)بتأريخ(26/8/2014م)، وقد ذكر عَمُّهُ السيّدُ «فاضل» أنّه كان يُحدِّثُنا دائماً أنَّه سَينالُ الشَّهادةَ عاجلاً أم آجلاً إنْ شاءَ اللهُ، ولما وصل إلينا نبأُ شهادتِه سَعَدنا بذلك، وعقَدَنا العزمَ على استنقاذِ جسدِه من أرض المعركة، فسِرنا إلى موقعِ شهادته، فطلبَ منّا آمرُ القاطع أنْ نتريّثَ ونرجعَ إلى المواقع الخلفيّة، فامتثلنا الأمر احتراماً، لكنّ الدّمَ يغلي في عروقنا، فعُدنا إلى منطقةِ(المسيَّب)، وكنّا نرابطُ في المستشفى نترقّبُ جثامينَ الشُّهداء، وبينما نحنُ ننتظرُ في المستشفى إذْ أخبرنا أحدُ العاملينَ بوصول جثمان مجهولٍ عُثر عليه قريباً، ولما تفقّدناه وجدناه جثمان السيِّد كاظم، وقد استغربَ الجميعُ مِن وصولِه إلى المستشفى مع أنّ موقعَ شهادته كان في الأرض التي سيطر عليها الدّواعش.
لقد نال الشّهيدُ ما تمنّاه والدُه، فارتقى إلى مقامِ الشّفاعة إنْ شاءَ اللهُ تعالى، وشُيِّع بين أيادي أحبّتِه من أهل القضاء، وهم يردّدون القصيدة الخالدة (يحسين بضمايرنا)؛ احتفاءً بخادم الإمام الحُسين(عليه السلام)، الذي خُتِم له بالشَّهادةِ، فسلامٌ عليه في الخالدينَ، وحشرهُ الله مع أجدادِه الطّاهرينَ.
مجيد محمد مزبان