أدب فتوى الدفاع المقدسة
البيت الصامت
2024/10/17

منزل بلا روح ما ان وصلت أعتابه حتى شعرت بغرابة، دخلته وأنا اتوقع مقابلة صاحبة المنزل، وأصبحت لا أطيق الانتظار والترقب لرؤيتها، فالمنزل يحمل صمتاً قاتلاً والبرد بدأ ينفض أوصالي، لا أرى شمساً تلامس شبابيكه، فلربما لم تجد لها مكاناً فيه لذا لملمت أحزمتها المشرقة ورحلت برفقة الراحلين.
وبينما كنت أنتظر وأطبق على يدي من شدة البرد، أقبلت نحوي طفلة صغيرة تخبرني أن والدتها ستأتي لاستقبالي بعد قليل مرت دقائق أخرى ثم سمعت صوت أقدام مقبلة نحو غرفة استقبال الضيوف حيث كنت جالسة، ظننتها هي.. لكنني رأيت طفلة أخرى أصغر سناً، إنها طفلتا الشهيد الكبرى ياسمين والصغيرة نرجس، كانتا تنظران إلى بعيون بريئة وملامح حملت نصيباً مما خيم على المكان، حاولت في زمن انتظاري اضحاكهما والتكلم معهما حتى انقضت دقائق أخرى على هذا الحال، ها هي زوجة الشهيد أوقدت المدفأة وهي تسألني بعد أن سلمت على بحفاوة كأنها تعتذر مني عن الدقائق الماضية: ((هل تشعرين بالبرد؟؟)) آسفة جداً... أنا لم أوقد المدفأة اليوم فالجو دافئ» كأنني أنا الوحيدة التي تشعر بما يدور بالمكان من برد وصمت.
أجبتها بامتنان نعم أشعر بالبرد، شكراً لك، ثم سارعتُ أكلمها وأسألها عن زوجها (حقي) الذي قدم روحه قرباناً لهذه الأرض، فهو أحد أبطال المرجعية الدينية، التحق بلواء علي الأكبر ولم يكن ذلك جهاده الأول بل كانت له صولات أخرى بالانتفاض على النظام البائد، جلست بقربها أتطلع لوجهها الذي تزاحمت فيه الهموم وأكتافها المثقلة بالمسؤولية، كي أعرف كيف كان (حقي) ذلك البطل الذي خلف غيابه كل هذا الفراغ والألم، في البداية لم تستطع الكلام، كانت دموعها تسبق كلماتها فبقيت الحروف متلجلجة في حلقها تحمل إضمامة من الصفات الجميلة التي يتسم بها، تركتها تنفس عن حزنها حتى هدأت قليلا.......
ثم بدأت تتكلم مختنقةً بعبرتها: «إن حقي كان نعم الزوج والأب.. عندما رام الالتحاق في شعبان تلبية لنداء فتوى الدفاع عارضته خوفاً عليه، فقلبي لم يكن يحتمل فكرة فقدانه، لكني سرعان ما تأزرت بصبر سيدتي زينب، فأصبحت أنا من يجهز ملابسه ويدفعه للالتحاق كأننا شريكان في معركة واحدة بفرق اختلاف الأدوار ليس إلا، أصبحت شريكة جهاده فأطمئن قلبه وبدأ يريني تصوير العمليات الجهادية والشهداء الذين سبقوه من رفاقه أثناء إجازته ويوصيني بابنتيه خيراً.
أتذكر إجازته الأخيرة... كنت أجهز الفطور فرحةً بعودته؛ لأن إجازته كانت فرصتنا الوحيدة في أن نحظى بحياة طبيعية كباقي الأسر، لذا كنا لا نترك لحظة تفلت منا دون استثمارها.
أقبل نحوي الى المطبخ وقال بنبرة جادة «أم ياسمين اشددي حيازيمك واستعدي فهذه المرة ستكون مختلفة، سأذهب لأربعة أيام فقط».
تركت إبريق الشاي من يدي وسألته مستغربة: لماذا فأنت بالعادة تذهب خمسة عشر يوماً أو أكثر؟ قال: هذه المرة ستكون نهاية المطاف وموعد الاختبار الذي جندنا له أنفسنا منذ البداية، هذه المرة سأعود ملفوفاً بالعلم فلا تحزني بعدي.
أجهشت زوجته بالبكاء مرة أخرى بيد أنها سكتت وبدأت تمسح دموعها كأنها تستغفر لذنب ما وبصوت واثق قالت: أعلم جيداً أن حقي الآن في المكان والمنزلة التي يستحقها، فقد رأيت في منامي أن ثمة صورة معلقة في الشارع فيها الإمام الحسين وعلي الأكبر والناس متجمهرة تنظر الى الصورة وضجيج أصواتهم يملأ المكان اقتربت لأرى ما يحصل، فإذا بزوجي (حقي) معهم في الصورة يقف بجانب الإمامين ، لذا أنا أعرف تمام المعرفة منزلته في الدنيا والآخرة وإني أتمنى أن يدعو لنا عند الله سبحانه بمنزلته تلك، لكن فراقه مؤلم جداً وبالكاد أقوى عليه، حلّ الصمت فلم تتكلم أكثر، معللة عدم قدرتها على المتابعة، بأن الذكريات أججت لهيب حزنها من جديد، أما أنا فلم أعد اشعر بالبرد ابدا، فقد شدني الحديث وتملكني الامتنان والتقدير لتضحياتهم الجليلة، وصرت أعرف سبب الصمت الذي يأسر هذه العائلة، فـ(حقي) ذلك البطل المغوار والزوج الصالح حمل معه كل شيء جميل عندما حزم أمتعته ورحل، إن ما قدمه لدينه وبلده يغني عن كل قول، وما عرفته عنه يكفيني لذا خرجت من خيام الصمت لأستنشق هواء الكتابة التي تتنفس ببطولاتهم.





رحم الله من يقرأ سورة الفاتحة المباركة.....