برعم ربيعي
2024/10/28
كان وردةً في وَهَج نُضجها وجمال نضارتها، لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره.. رأيته يجلس جلسة الواثقين المطمئنين..
هكذا كان علي الصغير في عمره، الكبير في عقله، القوي بعقيدته.. أجاب وبكل حب عندما سأله شاب جالس إلى قربه في الحافلة الكبيرة (البادية) التي كانت تقلنا من قرب ثورة العشرين متجهة نحو
حرم أبي الحسن :
من أين أتيت؟
من كربلاء.
لوحدك؟
نعم، لوحدي، أتيتُ كي أتدرب على حمل السلاح وفنون القتال في النجف الأشرف. سأله الشاب بفضول ومحبة وهو يحملق ويدقق في قسمات وجه علي اللطيفة.
لماذا أراك بمفردك.. أين والدك ؟
فأجاب والفخر يملؤه.
أبي الآن مع الحشد الشعبي يدافع عن الوطن.
أدهش الجميع ذلك ابن الثالثة عشرة من عمره، بعد أن أفصح عن سنه؛ وعن سر قدومه إلى
النجف.
لحظات.. وطلب من سائق السيارة أن يتوقف لينزل.. فتوقفت السيارة، وبادرتُ أنا بالنزول أيضاً للحاق به.. علني أتعلم مما قد عُلمَ رُشدا.
وعندما كان يهم بالنزول.. انحنى رجل كبير السن على يد علي الصغير ليقبلها بعد ان كان قد سمع
حواره مع الشاب.. فأبى علي وقال:
استغفر الله، أنا خَادِمُكم عمو».
يالله.. أي خلق يحمل .. نزل.. ومشى مسرعاً.. خطواته كانت تُشَمِّتُ ذهن من يتبعه! فهو لم يكن يسلك طريقا واحداً.. أتعبني! إلا أنني استطعت أن أوقفه لأبين له شدة إعجابي بما يفعله، لكني تفاجأت أني أواجه صبياً بارعاً في التواضع.. وسرعان ما أفلت نفسه من بين يدي.. عبر الشارع يمينا ثم عاد يسارا محاولا إيهامي.. وبعد ان فقدته لحظات بين شدة الزحام، رأيته جالساً جنب شرطيّ ممن يتولون الحماية والتفتيش في أحد الأبواب المؤدية للحرم العلوي الشريف، سارعت إليه خشية أن يستغفلني هذه المرة أيضاً.. سلّمتُ عليه وقلت له:
لا تخف أحببت الحديث معك فحسب.
فقال ممتنعاً:
لا لا.. كل ما في الأمر أنني أتيت لوالدي.. تُخفياً خلف حروفه مقصده وهدفه!
سرعان ما أتى الشرطي وأدخلني في استجواب عن سر لحاقي بالصبي الصغير، فشرحت له شيئاً مبسطاً مبيناً له سر الحاقي به.. حاول الشرطي بعدها ان يقنع عليا أنني لا أحمل له سوءا وإنما احببت
الكلام معه.. سألته بعد أن شعرت ان قلبه اطمأن:
قل لي فقط لماذا فررت مني؟
تبسم ابتسامة ملؤها البراءة والصدق.
لأنني لا أحب الشهرة.
ادهشني مرة أخرى.. فسألته:
لم أتيت من كربلاء إلى هنا؟
تفجرت أسارير الحب عنده، وقال:
لكي ارى سيدي.
ومن سيدك ؟
سماحة المرجع السيد السيستاني.
استفهمت منه :
وهل تعرف سماحة السيد؟ لم يكن سؤالي الا استنطاقا لمشاعر علي، فسماحة المرجع لا تسعه جمل
البلاغة والفصاحة لكي تُعرّفه.
قال لي علي حينها:
كيف لا وهو أمرنا بالدفاع عن الوطن، أنا أحب السيد و أحب الحشد.. أحبهم كثيرا.
قال ذلك وابتسامته ترسم الأمل على محياه.. وتهب السكينة لمن يراه.
طلبت منه أن يُعرّف لي ما يفعله ولماذا يجهد نفسه - وهو ما زال صبيا - بتعلم فنون القتال بعد ان
ترك أمه لأيام، وجاء إلى هنا متمنياً رؤية سماحة السيد، وشهر رمضان يلوح في الأفق؟ أجابني: أتمنى لقاءه كي يأذن لي باللحاق مع ابي في الحشد الشعبي كي لا تُدنّس أرض المقدسات، فهل تقبل ان يدخل العدو هنا ويتجرأ على أضرحة أئمتنا؟
قال ما قال واستعبر، وكأن قلبه النقي لا يحتمل حتى تصور ذلك الموقف.
لم أقاطعه، وتركت له حرية التعبير.. فأردف قائلاً بعد أن رفع رأسه الذي كان قد طأطأه عندما تصور شدة موقف ما يخشاه !
يجب علينا أن نتهياً ونغلق عليهم الطرق.. ليس من الحكمة الجلوس مكتوفي الأيدي.. أمي من أرسلتني وأبي منذ أشهر ولا يزال مع الأبطال في الحشد، وحتى لا أُعَدُّ كاذباً، أحب أن أخبرك أنني اختبأت عند ذلك الشرطي في بادئ الأمر ريبة منك.
فهمتُ حينها شدة فطنة هذا الصبي الذي ذكرني طيلة حديثه بشهيدنا القاسم بن الحسن ، فهو يحمل في قلبه السلام و هم الإسلام وطهارة الروح ونقاءها، كلمته كثيراً وطويلا.. استجوبته عن سر قوته، فعاد وأجاب جواباً نافذ البصيرة:
سماحة السيد سر قوتنا..
أحببتُ ملاطفته بأن التقط له صورة احتفظ بها لأقرأ قسماته كلّما داهمني شيء من الضعف او الألم، فقد كان يحمل وجها باسماً ملؤه النور.. امتنع وهمس بصوت خافت خجل لرد طلبي وابتسامة
تملا محياه
أرجوك اعذرني في ذلك، أخبرتك بأني لا أحب الشهرة.. وان عملي الله ولا أريد ان تخالطه لوثة
رياء، وأمنيتي ان أموت شهيدا فهو شرف لي.. أحب ان أكون جندياً مجهولا ...
ودعته.. بعد ان منحني متسعاً من الوقت للتفكر والتدبر .. ولم املك له الا الدعاء، لم اذكر مما رأيت منه الا اليسير.. لكنني أؤمن أن بلداً ينجب هكذا حسينيين لن يرى الهوان.. إنهم تربية المرجعية...
ونعم التربية.