دور الوكلاء والمعتمدين في تعزيز مأسسة المرجعية والتواصل مع الجماهير
2025/02/14
تعتمد المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف على شبكة من المساعدين الذين يسمّون بـ (الوكلاء والمعتمدين)، ولهؤلاء مساهمات جمّة في توجيه المجتمع وقيادته والتواصل معه على الصعد كافة، ومن هنا تتضح أهمية هؤلاء بالنسبة للمؤسسة الدينية والجماهير على حد سواء، إذ إن هذه المؤسسة لها تركيب هرمي يكون المرجع الأعلى على رأسها ويأتي بعده في الترتيب ممثلوه ووكلاؤه، وهم من علماء الدين الذين درسوا عنده أو في مدرسته، لذلك هم على معرفة ودراية بآرائه واجتهاداته، أما القاعدة العريضة للهرم فتتكون من عامة الشيعة الذين يتبعون آراءه في كل شؤون حياتهم، ويطلق عليهم "المقلدون" وتستمد المرجعية العليا سلطتها الدينية والروحية من مصدر رئيس واحد، وهم المقلدون الذين يؤمنون بأهلية المرجع لهذا المنصب فيختارونه بمحض إرادتهم، ولذلك هم على استعداد لاتباعه في الأحكام والفتاوى.([1])
ومما ينبغي الإشارة إلية والوقوف عنده أن اختيار الشيعي لمرجع التقليد يتم بحرية تامة من دون إجبار، يختار بقناعة تامة بناء على خصائص وشروط معينة يجب أن تتوافر في شخص المجتهد الذي تصدى للمرجعية، أما قوة المرجعية فتقاس بعدد المقلدين، وشبكة ممثّليه ومعتمديه ووكلائه المنتشرين في مختلف المناطق، ومدى نشاطهم وتأثيرهم في الأوساط الشعبية.([2])
فالمرجع يحتاج إلى جهاز متكامل وشبكة واسعة من المساعدين والوكلاء والمعتمدين والمؤسسات الثقافية والخيرية والإنسانية والفكرية التي تربطه بقواعده الشعبية والأمة بصورة عامة، على أن الكثير من المواقف التي تلجأ إليها المرجعية العليا لا يتم التعامل معها من مقلدي المرجع فقط، بل من عموم الناس، والمرجعية الدينية تولي أهمية كبيرة لسلوك أبناء الأمة والتزامهم بأحكام الشرع، ولذلك تبعث الوكلاء إلى المناطق المختلفة لأجل تثقيف المجتمع بمفاهيم الدين والعقيدة والأحكام الشرعية.([3])
وتهتم المرجعية كثيرا بمواسم التبليغ الديني السنوية في رمضان ومحرم وصفر، إذ تقوم بتعطيل الدراسة في الحوزة وإرسال أعداد كبيرة من طلبتها مبلغين دينيين الى مختلف المناطق، ولا يقتصر إرسال المبلغين إلى داخل العراق فحسب، بل يتم إرسال الكثير منهم من بلد الى آخر بحسب المتوفّر من الإمكانيات، ويتم إرسال المبلغين أيضا الى الدول غير الإسلامية التي توجد فيها تجمعات شيعية، فهذه الحركة التبليغية من واجبات المرجعية الدينية، والرعاية الثقافية والاجتماعية تدخل ضمن مفهوم أبوتها للأمة.([4])
ولهذه المهمة الدينية الحسّاسة قسم خاص يتولى عملية الدعم والإشراف والتنظيم والتنسيق، إذ يجري إرسال مئات المبلغين لاسيما في شهري محرم الحرام ورمضان المبارك، ويتم أيضا إرسال عشرات المبلغين سنويا الى الخارج بناء على طلب المراكز الاسلامية المنتشرة في مختلف بقاع العالم، لاسيما الدول العربية والأفريقية ودول القوقاز وجنوب شرق آسيا واستراليا والدول الاسكندنافية والولايات المتحدة وسائر البلدان، زيادة على وسائل الدعم المختلفة التي يحملها مبلغو الداخل والخارج للمؤسسات الدينية القائمة في تلك المناطق والبلدان.([5])
إن حركة المجتمعات والأمم والجماعات تدرس – أحيانا – بوصفها حالة نظرية، لكن الجانب العملي لها مهم جدا بالعيش مع المجتمع ومعرفة مشاكله وتفهّم حقيقتها، وإدراك الخصوصيات المحيطة بها، وطالب العلم إنما يدرس حتى يتعلم ثم يعلم الناس ويهديهم، والتبليغ ممارسة اجتماعية للمشكلات التي يعيشها الناس، تساعد على عملية الاستنباط الصحيح، فمعرفة الأوضاع الاجتماعية لها دور وتأثير كبيرين، فالتكامل لا يحصل إلّا بتوفّر هذه الرؤية، وهذه لا تحصل إلّا بالممارسة الخارجية.([6])
والمبلغ أو الوكيل أو رجل الدين في المنطقة التي يتواجد فيها إذا لم يكن عالما وعارفا وفاهما للشريعة وأحكامها بدرجة عالية، ولا يكون قادرا على أداء رسالته بوجه أكمل، ولاسيما إذا أخذنا بالحسبان أن مشكلات مجتمعات اليوم ليست على مستوى الأحكام الشرعية فحسب، بل هي مشكلات فكرية واجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها، وبالتالي يحتاج العالم المبلغ أن يكون بمستوى يمكّنه من مواجهة هذه المشكلات القائمة في المجتمع.([7])
ولأن مؤسسة المرجعية تمتاز باستقلال قرارتها الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيره، فلابد من أن يكون لهذه المؤسسة الضخمة كوادرها وقنواتها واجهزتها الخاصة المستقلة أيضا، وأن تشرف على إدارتها ونشاطاتها وسائر شؤونها شخصيات كفوءة، ولجان محورية متخصصة، ومنظومة معتمدة، إذ ينبثق عن الموقع المركزي والمقر الرئيس للمرجعية نظام الوكلاء والمعتمدين والمندوبين والممثلين الذين يتوزعون على المناطق والدول المختلفة، وتتفاوت درجات هؤلاء الوكلاء علما وثقافة وإدارة اجتماعية، والوكيل يمارس عمله على وفق ضوابط وموازين شرعية.([8])
والممثّل أو الوكيل يأتي بعد المرجع في الترتيب الهرمي، وهم من العلماء، ويكونون في الغالب من طلاب المرجع الذين درسوا على يديه أو في مدرسته، وبحسب هذا فهم على علم ومعرفة بآرائه واجتهاداته، ولذلك يدعون إلى مرجعيته.([9]) إن طريقة تمثيل المرجعية تختلف بموجب المنطقة والظروف، فأحيانا تبعث المرجعية الدينية شخصية من علماء الحوزة العلمية في النجف على مستوى مجتهد ليكون ممثلا لها وعالما في منطقة معينة، كالذي كان في زمان السيد محسن الحكيم حيث كان يرسل في بعض الأحيان علماء مجتهدين ومحترمين للإشراف على عمل منطقة أو مدينة أو محافظة أو مدينة أو قرية، بحسب أهمية الموضوع. وفي بعض الأحيان فإن المراجع يندبون مندوبا متابعا، أي وكيلاً متابعاً، يتابع شؤونا معينة، وهم يتابعون مع هذا الوكيل، لكنه لا يكون دائما في مقره وفي وضعه، وأحيانا يتم اعتماد وكيل ويكون في الغالب من الفضلاء الأساتذة الذين وصلوا الى مرحلة لا بأس عليها من الدراسة والتدريس في النجف الأشرف، وهو أصلا من تلك المنطقة نفسها، وتعتمد المرجعية على خبرته ومعرفته بالمنطقة وعلى ما وصل إليه من خبرة و دراسة في الحوزة العلمية، فتعيّنه وكيلا في منطقته([10]).
وبعد العام 2003م تم اعتماد نظام جديد، وهو نظام المعتمدين، إذ يعتمد وكيل من الدرجة الأولى، وهو في الغالب رجل عالم كبير السن مجتهد في المنطقة، ويوجد وكلاء في بعض النواحي أو الأقضية في المحافظة نفسها يعدون أقل منه رتبة ويتبعون له. وقد أنشئ مشروع المعتمدين، وهم مجموعة من رجال الدين شباب أو كبار تختلف مراحلهم وأعمارهم يكلفون بالمهام الميدانية، على حدّ أن الوكيل في الغالب يكون محله ثابتا وعنده مكتب والناس تتعامل معه وهو يتابع الأمور بطريقته، أما المعتمدون فهم الجهاز الفعّال لتنفيذ رؤى المرجعية ومتابعة قضايا الناس وإيصالها الى المرجعية يومياً وهؤلاء في العادة تكون طبيعة عملهم مختلفة عن الوكالة، إذ يكون اعتمادهم مؤقتا وليس دائما، كأن يكون الاعتماد تكليفاً لمدة سنة واحدة فقط بنهايتها ينتهي التكليف، وممكن أن يجدد له باعتباره مكلف بمهمة وعمل يقوم به في قضايا دينية أو اجتماعية أو عشائرية أو سياسية حسب الظرف، إلى غير ذلك من المهام التي يكلّف بها المعتمد من إدارة شؤون المرجعية في تلك المنطقة. وهناك وكلاء مناطقيون، أي إقليميون يشرف كل منهم على مجموعة دول في قارة أوربا أو أمريكا أو آسيا على سبيل المثال، إذ يشرف على مجموعة بلدان، ويكون لديهم صلاحيات وإدارات واسعة بمتابعة مجموعة وكلاء في عدة دول ضمن الإقليم، وقد يحصل بعضهم على وكالة من مكتب المرجعية في النجف مباشرة، ولكن متابعتهم تتم عبر الوكيل العام. ويعدّ الوكيل العام وهو عالم مجتهد أعلى مراتب الوكلاء، ويعيّن على مدينة كبيرة أو ناحية كبيرة أو قضاء كبير أو محافظة، وفي الغالب هو ابن المنطقة وليس مبتعثاً، ثم يأتي المعتمد وهو الرجل الذي يكلف بمهام ميدانية مؤقته قابلة للتجديد، أما موضوع المخوّل فهو ليس دائما وإنما بحسب الظروف، ويمكن القول إِنه إما أن يكون شخصا مخولا أو يكون المخوّل عبارة عن لجنة مكلفة لمهام معيّنة، أما عزل الوكيل فيتم من الجهة التي نصبته، فإِذا كان الوكيل الإقليمي هو من عين الوكيل فمن حقه عزله، وللمرجعية حق عزل أي وكيل سواء هي من نصبته أم الوكيل الاقليمي.([11])
وعبر هذه الشبكة الواسعة من الوكلاء والمعتمدين والممثلين تستطيع المرجعية الدينية التواصل مع الناس، واستيعاب أعداد كبيرة من الأفراد ضمن مجالات عمل المرجعية كالحوزات والمؤسسات الثقافية والجمعيات الخيرية والمؤسسات العلمية والنشرية.([12])
وعن طريق الوكلاء والمعتمدين تستطيع المرجعية الدينية صناعة الرأي العام وتوجيهه بالشكل الذي تراه صحيحا لتحقيق المطالب واستجلاب الحقوق لقواعدها الشعبية، مستفيدة مما تتوافر عليه من إمكانية مالية يمنحها لها المقلدون عبر الحقوق الشرعية، التي تمثل مصادر استراتيجية لنشاطات المرجعية وأنصارها، وبهذه القدرة المالية تستطيع المرجعية الحفاظ على استقلالها، وتحرير القرار المرجعي من ضغوطات السلطة، وتدعيم نفوذها عبر خدماتها الاجتماعية، ونشر الوكلاء في أماكن تواجد قواعدها الشعبية المسماة بالمقلدين.([13])
ويسعى وكلاء المرجعية في جمع هذه الحقوق وتشجيع المكلفين على دفعها، وبعضهم يدفعها للمحتاجين بنفسه وبمعرفته بعد الحصول على إذن المرجع. و المرجع أو الفقيه يستمد قوّته الفعلية وتأثيره من ثقة الناس به وطاعتهم لما يصدر عنه، فيتمكن من التأثير في مجريات الأمور وتوجيه أصحاب السلطة وإرشادهم إلى ما فيه المصلحة العامة، فإن التزموا تحقق المطلوب وإلّا يتمكن المرجع من تحريك الأمة والرأي العام بما قد يؤدي إلى أمور لا يحبّذها أصحاب السلطة.([14])
وشروط اختيار الوكلاء متعددة منها النزاهة والكفاءة والإمكانية، وهناك قضايا أساسية ثابته وأخرى متفرعة بحسب المنطقة والرجل المعين فيها ووضعه العلمي.([15]) وتقوم المرجعية الدينية بمراقبة وكلائها ومعتمديها قبل الاعتماد وبعده لضمان حسن الأداء، ويتم اعتماد الوكيل على وفق الموازين الشرعية المتطلبات العلمية والنزاهة والأمانة، فإن أدى المعتمد ما عليه كان قد أدى الأمانة، وإن قصر عوتب وصحح تقصيره، وإن خان وبَّخ وعزل.([16])
ويعمل الوكيل أو المعتمد على وفق توجيهات وإرشادات خاصة، وإذا حصل حدث جديد خارج حدود الاعتماد والوكالة فعليه الرجوع إلى المرجع فيها، وفي حال المخالفة تسحب الوكالة منه.([17]) أما صلاحياتهم فتختلف من شخص إلى آخر، فالوكيل العام صلاحياته أوسع من صلاحيات المعتمد، ولكن ليست كصلاحيات الوكيل العام، أما المعتمد فلديه نسبة صلاحية معينه، ومهامهم فيها أشياء ثابتة متعارف عليها وأشياء متغيرة، الثابتة هي الإصلاح بين الناس والأمور الحسبية، ومتابعة قضايا الطلاق والزواج بموجب صلاحياته وليس للجميع هذه الصلاحية، وللوكيل العام التصرف بالحقوق الشرعية، وأحيانا يُعطى الوكيل إذن تصرف عام بالحق الشرعي، من دون العودة إلى مكتب المرجع، وفي أحيان أخرى يمنح حق التصرف بنسبة يحددها المرجع وتوزع بحسب حاجة المنطقة والظروف المحيطة بالاعتمادية.([18])
ويتم تشجيع من يتحلى بالواقعية والإخلاص والتقوى وحسن السلوك من الوكلاء والتعاون معه، والتحفظ على من لم يعرف فيه ذلك، ولا يتعرض لهذه الأمانة إلّا من كان أهلا لها وقادراً على حملها مع التحفظ على التهريج والدعايات الكاذبة وتدخل الأغراض الشخصية والمصالح الفردية والعواطف والمجاملات.([19]) فإِذا وجد المرجع تلامذته أو القريبين منه أهلا لتحمل المسؤولية فلا محذور من اعتماده عليهم ولاسيما بعد تلكؤ الآخرين من التضحية بأوقاتهم قبل بروز المرجع على الصعيد العام، إضافة إلى أن تلامذته والمقربين منه قد عاشوا معه وجربهم وعرف عنهم ما لا يعرفه غيرهم عنهم، وهم باتجاهاته وآرائه ومفاهيمه التي يحملها والتي على اساسها تحمل مسؤولية التصدي للمرجعية.([20])
وقد أدى الوكلاء دورا كبيرا على مر تاريخ العراق الحديث في تنفيذ أوامر المرجعية وفتاواها ولاسيما السياسية والجهادية منها، فقد كان دور المرجعية الدينية لوكلائها في الجنوب العراقي توسيع نطاق المقاومة وتوجيهها في أثناء ثورة العشرين ضد المحتلين الانكليز، وتعبئة الأهالي وتحريضهم، وخلق حالة من المقاومة ضد الانكليز، وهذا الدور أقلق سلطات الاحتلال التي عجزت عن احتوائهم.([21]) ومن بين المهام التي يقومون بها أيضا مساهماتهم في حل الكثير من المشاكل الاجتماعية والخلافات العشائرية وحقن الدماء عبر القضاء بين المتخاصمين في المشاكل العشائرية التي يشهد الكثير منها عمليات قتل وما شابه ذلك، ويتم القضاء من قبل المرجع مباشرة أو عن طريق ممثل عنه.([22])
وحمل عام 2003م مسؤوليات إضافية للمرجعية ووكلائها ومعتمديها في العراق بعد سقوط النظام السابق وانهيار المؤسسات الحكومية لاسيما الجيش والاجهزة الأمنية، وتعرض الممتلكات العامة والخاصة للسلب والنهب والاعتداء، حتى باتَ وضع العراق خطيرا ومرعبا جدا، وفي جواب للمرجع الديني الأعلى على سؤال عن التجاوز على الممتلكات العامة قال (دام ظله) في تاريخ 2 نيسان 2003م: "لا يجوز أخذ شيء منها ويحرم التعامل بها ومن فعل ذلك كان ضامنا".([23]) وفي جواب آخر له على سؤال آخر عن الممتلكات العامة المسروقة من المستشفيات والجامعات والدوائر الحكومية قال: "لابد من التحفظ عليها، ويرجح أن يكون ذلك بجمعها في مكان واحد بإشراف لجنة مختارة من أهالي المنطقة لكي يتسنّى تسليمها إلى الجهات ذات الصلاحية لاحقا".([24])
وقد أدّى وكلاء المرجعية الدينية وطلبة الحوزة في المحافظات في أثناء الفراغ - الذي أوجده سقوط النظام عام 2003م ومن ثم حلّ الجيش والأجهزة الأمنية من لدن الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر - دورا كبيراً في حفظ الأمن والنظام وحماية المستشفيات والجامعات والممتلكات العامة الأخرى، وتشكيل اللجان في المناطق لضبط الأمور فيها ومنع التسيب والانفلات الأمني والإداري، وكان لهم الدور الأكبر في حماية أرواح الناس وممتلكاتهم، وفي إنقاذ المؤسسات الحكومية والممتلكات العامة من العبث والتدمير، فالمعروف عن المرجعية الدينية أنها متوجهة صوب العمل التدريسي والتبليغي والثقافي في الظروف الاعتيادية، لكنها تبادر الى ممارسة أدوار استثنائية في الظروف الحرجة التي يتلاشى فيها وجود الدولة، ويصبح البلد وأرواح الناس في خطر، وقد نجح الكثير من الوكلاء وطلبة الحوزة العلمية والمرتبطين مع مكاتب المرجعيات الدينية بتوجيه مباشر منها في ملء الفراغ الكبير الذي خلفه غياب الدولة التام آنذاك وفي مسك زمام الأمور، ومنع البلد من الانزلاق في الفوضى العارمة، واسترجاع نوع من النظام والسيطرة في المدن العراقية التي عمتها الفوضى وعمليات العنف والسلب والنهب.([25])
وفي خضم الجدل حول آلية كتابة الدستور بعد عام 2003م، أَعلنت سلطات الاحتلال أَنها قررت تشكيل مجلس لكتابة الدستور العراقي القادم، وأنها ستعيّن أعضاء المجلس بالتشاور مع الجهات السياسية والاجتماعية في البلد، ثم طرح الدستور الذي يقرّه المجلس للتصويت عليه في استفتاء شعبي عام.([26]) فقامت المرجعية الدينية عن طريق وكلائها ومعتمديها بحملة مكثفة جدا لخلق وعي شعبي بأهمية الدستور ووجوب انبثاقه من جمعية تأسيسية منتخبة، وتجاوب الشارع مع دعوة المرجعية بصورة كبيرة، وبرزت قوة هذا التجاوب حينما أعلنت الأمم المتحدة استحالة إجراء الانتخابات في أوضاع البلد الحالية، ووصل الوضع السياسي للمسألة الى طريق مسدود، فاصطف مراجع النجف الى جانب السيد السيستاني وأصدروا بيانات تأييد لموقفه، وهنا بدأ التحرّك المدروس لكبار وكلاء المرجعية الدينية ومعتمديها في توجيه الرسائل إلى الاحتلال وتحذيره من مغبّة السّير في الطريق الذي يُخطط فيه للهيمنة على العراق ومستقبله، فقد هدد إمام جمعة كربلاء ووكيل المرجعية فيها الشيخ عبد المهدي الكربلائي بإعلان الإضراب الشعبي العام في حال عدم الاستجابة لمطالب المرجعية الدينية، أما الجماهير فقد واجهت الرفض الامريكي لآراء المرجعية بالنزول إلى الشارع، إذ انطلقت مظاهرة كبرى في بغداد وبدأت الحشود بالتدفق للمشاركة فيها منذ ساعات الفجر الأولى، وعلى الرغم من أن السيد السيستاني لم يدع بشكل علني للتظاهر نزل في شوارع بغداد أكثر من مائة الف شخص مطالبين بإجراء انتخابات عامة مباشرة لانتخاب اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور.([27])
وفوجئ الجميع بتظاهرة قدر عدد المشاركين فيها بنصف مليون شخص قادها السيد علي الصافي وكيل عام المرجعية في البصرة، وهي تطالب بإجراء انتخابات حرة نزيهة، وتهدد قوات الاحتلال في حال رفضها الرضوخ لمطالب المرجعية، وسرت عدوى التظاهرات الى محافظات عراقية أخرى([28]).
ومن البصرة أيضا أعلن وكيل المرجعية السيد علي الصافي أن الشيعة سيسعون الى تحقيق أهدافهم بالوسائل السلمية في الوقت الراهن، وأن العراقيين لا يحتاجون الى العنف للحصول على حقوقهم مادامت هناك وسائل سلمية يمكن اللجوء إليها، وإذا وجد العراقيون أن الوسائل السلمية لم تعد متاحة فسيتعين عليهم البحث عن وسائل أخرى.([29]) ومن الكويت هدد ممثل المرجعية الدينية هناك السيد محمد باقر المهري بإصدار فتوى من المرجعية العليا تنزع الشرعية عن الحكومة العراقية التي يعينها الاحتلال في حال عدم الاستجابة لمطلب إجراء الانتخابات.([30])
واستثمرت المرجعية الدينية العليا فرصة إجراء مباحثات في نيويورك لمناقشة دور الامم المتحدة في العراق بعد نقل السيادة الى العراقيين، من أجل الضغط على مسار هذه المفاوضات بحيث يصبح للأمم المتحدة دور قبل تسليم السيادة وليس بعدها، فقام يوم 10 1 2004م وبترتيب من الوكلاء والمعتمدين تم استقبال وفد من عشائر الرميثة بمحافظة المثنى، وكان لهذا الاستقبال مغزى كبير على حدّ أن ثورة العشرين التي كانت ضد الاحتلال الانكليزي للعراق عام 1920م انطلقت شرارتها الأولى من الرميثة، وفي الوقت نفسه سُرّبت أخبار وهو أن المرجعية لن تمسك زمام الأمور بعد الآن، ولأن الانتفاضة الشيعية في الجنوب هي آخر ما تود الإدارة الامريكية سماعه من أنباء مزعجة في العراق بحسب الصحافة الامريكية.([31])
فقد سارع المتحدث باسم البنتاغون الامريكي يوم 14 1 2004م للإعلان عن إمكانية تعديل اتفاقية 15 تشرين الثاني 2003م ضمن إطارها العام بما يضمن تمثيلا أوسع للشعب العراقي، وقامت واشنطن باستدعاء السفير (بول بريمر) ليعلن بنفسه من واشنطن في اليوم التالي امكانية تعديل اتفاقية 15 تشرين الثاني استجابة لاعتراض المرجعية([32]).
وبعد قرار إجراء الانتخابات لاختيار أعضاء اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور أدّت المرجعية الدينية عبر معتمديها ووكلائها في المحافظات دورا كبيرا في إِقناع الرأي العام العراقي بالمشاركة الواسعة في الانتخابات على الرغم من الأوضاع الأمنية الخطيرة والتحديات الكثيرة التي كان يواجهها العراق آنذاك، وفي الاستفتاء على الدستور بـ "نعم" بعد ذلك، إذ تم تعطيل الدراسة وإرسال طلبة العلوم الدينية الى المناطق المختلفة لحثّ الناس على المشاركة القوية والفاعلة في الممارستين.
([1]) – ينظر: المرجعية الدينية والعراق الجديد، نجوى صالح جواد، جدلية الدين والسياسة، 2010م: 48.
([2]) - المصدر نفسه: 51.
([3]) - الدور السياسي للمرجعية، عباس الإمامي، بيت العلم للنابهين، 2011م: 239.
([4]) - مقابلة خاصة أجراها الإعلامي الدكتور راجي نصير مع السيد صالح الحكيم مدير مركز الحكمة للحوار والتعاون في تاريخ 1662015.
([5]) - الموقع الرسمي للسيد السيستاني، www.sistani.org
([6]) - الحوزة العلمية، محمد باقر الحكيم، مطبعة عترت، ط1، 2005: 82.
([7]) – المصدر نفسه: 84.
([8]) - الإمام السيستاني شيخ المرجعية المعاصرة، محمد صادق بحر العلوم، دار المحجة البيضاء، بيروت، لبنان، 2009م: 249.
([9]) - المرجعية الدينية والعراق الجديد، نجوى صالح الجواد، 2010م: 48.
([10]) - مقابلة خاصة أجراها الإعلامي الدكتور راجي نصير مع الشيخ علي النجفي في تاريخ 1562015.
([11]) – المصدر السابق.
([12]) - الفقيه والدولة، تطور الفكر السياسي الشيعي، فؤاد ابراهيم دار الكنوز الادبية، بيروت، لبنان، 1998م: 329.
([13]) - المصدر نفسه: 330.
([14]) - الرقابة العامة للمرجعية الدينية في العراق الحديث، عباس جعفر الامامي، العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، 2014م: 155.
([15]) - مصدر سابق: مقابلة خاصة مع الشيخ علي النجفي.
([16]) - الإمام السيستاني أمة في رجل، مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2008م: 119.
([17]) - الرقابة العامة للمرجعية الدينية في العراق الحديث: 198.
([18]) - مصدر سابق: مقابلة خاصة مع الشيخ علي النجفي.
([19]) - المرجعية الدينية وقضايا أخرى، محمد سعيد الحكيم، مؤسسة الحكمة، النجف الأشرف، ط 10، 2011م: 63.
([20]) - المصدر نفسه: 56.
([21]) - الدور السياسي للمرجعية الدينية: 92.
([22]) – المصدر نفسه: 92.
([23]) - النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني، حامد الخفاف، دار المؤرخ العربي، بيروت، لبنان، ط6، 2015م: 13.
([24]) - المصدر نفسه: 15.
([25]) - المرجعية الدينية والعراق الجديد: 208.
([26]) - النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني: 35.
([27]) - المرجعية الدينية والعراق الجديد: 227.
([28]) - الإمام السيستاني أمة في رجل: 227.
([29]) – المصدر نفسه: 240.
([30]) - المصدر نفسه: 243.
([31]) - المرجعية الدينية والعراق الجديد: 228.
([32]) - المصدر نفسه: 228.