أدب فتوى الدفاع المقدسة
الشهيد السعيد فالح عبد الله فالح
2023/05/23
نزلتْ الشريعةُ الإلهيّةُ تَدريجيّاً، تَبعاً لمُقتضيات المَرحلةِ الزمنيّةِ التي يَمرُّ بِها المُسلمونَ في صدرِ الإسلام، ومِن تِلك التشريعات جِهادُ أعداءِ الدّين، فلم يُؤذَنُ للمؤمنينَ بقِتالِ الكُفَّارِ بادئ الأمرِ، وأُمروا بالصبرِ، لحكمةٍ إلهيّةٍ، لكن بعدما هاجروا إلى المدينة، وحصلتْ لهم مَنَعةٌ وقُوّةٌ، نَزلتْ الآيةُ الكريمةُ من سُورةِ الحجِّ التي أُذنَ فيها للمؤمنينَ بالقِتالِ والدِّفاعِ عن أنفسِهم وأعراضِهم وديارِهم، فقال تَعالى في مُحكمِ كِتابه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ، فَشُرِّع الجِهادُ من حينها؛ إقامةً لدين الله، وحفظاً لحدوده، ولدفع الأذى والخطر عن بلد الإسلام ومُقدَّساته، وليطمئنّ العبادُ وتستقرَّ البلادُ، وتُقام شَعائرُ اللهِ في أرضهِ، كالصّلاةِ وذكر الله، وكلُّ هذا بفضل المُجاهدين وتضحياتهم، وأوَّلُ مَن امتثلَ أمرَ اللهِ هُو أميرُ المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالبٍ(علية السلام )، إذْ سَطَّر المَلاحم والبُطولات حتّى علا اسمُه في التأريخ، وأصبحتْ الشجاعةُ لا تُقاسُ إلا به، وإنَّ شِيعته الذين تَربَّوا على نَهجه واستمدُّوا القُوَّةَ والثباتَ مِنه، نَراهم اليومَ في ساحات المُواجهة يتصدَّون للقتلة المُجرمين من التنظيم الإرهابيّ المُسمَّى(داعش)، الذي شنَّ هَجمةً شَرسةً على أرضِ العِراق الطيّبة -التي ملأها حبُّ محمّدٍ وآلِ محمّدٍ(عليهم السلام)- فقامُوا بتهديم قُبورِ الأنبياءِ والأولياءِ والمساجدِ والحُسينيَّاتِ، والكنائس وبيع المَتاحف الأثريّة التي يَعود تَاريخها إلى آلاف السنين، وقتلوا الأبرياءَ وسفكوا الدّماء، ووضعُوا قوانين لا تَمتُّ إلى الإسلام بصلةٍ من أجل تَشويه صُورته وإشباع غرائزهم الشيطانيّة، فأخذوا يَنتشرون فـي المُحافظات الشماليّة والغربيّة من أرض العراق، حتَّى أصبحتْ وَكراً ومرتعاً لهم ولأشياعهم من شُذَّاذ الآفاق، وأهل النفاق، فانطلق أبناءُ الإمام علي(علية السلام) تلبيةً لنداءِ الدّينِ المُتمثِّلِ بالمرجعيَّة الرّشيدةِ في النجف الأشرف وملؤهم حُبُّ الإسلام وعِشقُ الشَّهادة، يَذودون عن أرض العِراق ومُقدَّساته.
ومِن بين هؤلاء الأبطال الشَّهيد (فالح عبد الله فالح)، الذي وُلِد في مدينة البصرة سنة 1983م، من أبوينِ مؤمنَينِ مُحبَّينِ لأهل البيت(عليهم السلام)، وتسكنُ عائلتُه قضاء الفاو في منطقة المعامر، ثُمَّ انتقلت إلى قضاء أبي الخصيب، ودرس الشهيد في مدرسة حمدان الابتدائيّة، وكان مُتميّزاً بين زملائه، والابتسامة لا تفارق وجهه، ثُمَّ أكمل دِراسته المُتوسّطة في مدرسة التقوى، ثُمَّ انتقل إلى إعداديَّة الصّناعة في أبي الخصيب، واختصَّ بقِسم المعادن.
كان الشَّهيدُ يَكسبُ قُوتَ يومِه مِن عَرَقِ جَبينه، ويُكثر مِن مُساعدةِ المُحتاجين، ليَرسمُ في وجوههم الابتسامة الطيّبة، وكان محبوباً بين أصدقائه وزُملائه، وتظهر على وجهه الطِّيبةُ والبساطةُ .
تَربَّى على حُبِّ أهل البيت(عليهم السلام)، يُشاركُ في الزيارات المَخصوصة لأبي الأحرار وسيّد الشهداء(علية السلام)؛ لِحفظ الأمن في كربلاء المُقدَّسة، وتَوفير ما يَحتاجه الزَّائرون، امتاز بالأخلاق الحميدة والتديّن مُنذ صغره، فكان مِن مُرتادي المَساجد، وخُصوصاً مَسجد الهُدى في منطقة العبّاسيَّة في الجزائر، و كان معروفاً بين المُصلِّينَ، بارّاً بوالديه، يُحبُّهم حُبَّاً شديداً، حريصاً على نيل رضاهم، لدرجةِ أنّه أخبرَ أحدَ رِفاقه في مُعسكر الجِهاد برَفْضِه الزَّواج في سِنٍّ مُبكّرٍ لكي لا يَجلب زوجةً ربّما لا تتّفق مع والدته وتُؤلمُها ولو بكلمةٍ واحدةٍ، ومِن حُبِّه لها لم يُخبرها بأنَّه ذاهبٌ إلى الجهاد كي لا تقلق عليه، فكان يَقول لها: إنَّه يَخدم في العتبة الحُسينيَّة المُقدَّسة.
تَطوّع في صفوف العتبةِ الحُسينيّةِ المُقدَّسةِ عن طريق أحد أصدقائه في المنطقة، في لواء عليٍّ الأكبر(علية السلام) ضِمن فوج سبع الدِّجيل، كان مُميَّزاً بَين المُجاهدينَ بأخلاقه العالية وفِطنته وسرعة بداهته، وكان خَدوماً للمُجاهدينَ يُساعدهم ويَخدمهم.
عَشِقَ الشّهادة؛ كونها نهجَ أهل البيت(عليهم السلام) وطريقهم، وسبيلَ النجاة، وقد ذكر هذا لزملائه في الجهاد، وتمنَّى أن يَسقطَ شهيداً فحقَّق اللهُ أمنيته.
التحقَ الشَّهيدُ فالحُ قبل يومين من صدور الفتوى بفَوج سبع الدِّجيل، وبعدها انتقل الفوجُ إلى منطقة بلد في القاعدة الجويَّة، التي تحتوي على مَشجبٍ كبيرٍ من الأسلحة، وبَقيَ هُناك مُمسكاً بالأرض يَصدُّ هجمات الأعداء، ولولا ثَبات المُجاهدينَ وبطولاتهم لسقطتْ القاعدة وسيطر الدواعش على مَشجب الأسلحة، ولَحدث ما لا تُحمد عُقباه.
وفي آخر نزولٍ له حدّث أُمّه بأحاديث استشعرتْ منها أنّه مفارقها، فودّعته ودَعَتْ له، ثمّ التحق بالواجب، وفي أثناء تأديته الواجب في أحد القواطع التابعة لقيادة فوج سبع الدّجيل غَدَر به الغادرونَ الجبناء، فجاءته رصاصةُ قنّاصٍ أصابته في رأسه، فتنسّم عَبَقَ الشّهادة في حبِّ الإمام الحُسين(علية السلام)، وسار مع ركبِ الشّهداء بتاريخ
(2014/12/6)، الموافق الثالث عشر من شهر صفر الخير 1436 ، وما أن مرَّتْ ساعاتٌ حتّى سمِع أهلُه بالخبر، فاستعدُّوا لاستقبالِ بطلهم، وشُيّع بينهم في مدينة البصرة تَشييعاً مهيباً حَضَر فيه بعضُ مُعتمدي المَرجعيَّة الدينيَّة ووجهاءُ من أهل البصرة، وأُقيمتْ الفاتحةُ على رُوحهِ في أكثر من مكان، أبرزها في حُسينيّة مهيجران في منطقته، حَضرها وفدٌ مِن العتبة الحُسينيّة المُقدّسة مع عددٍ كبيرٍ مِن أبطال لواء عليٍّ الأكبر(علية السلام)، ومن إدارة المُتطوّعين.
فهنيئاً لك حَيثُ خُتمتْ حياتُك بالشّهادة أيّها البطل، وجعلك اللهُ مع أنصار الإمام الحُسين(علية السلام)، الذين تركوا مَلذَّات الدُّنيا والتحقوا بِسفينة النّجاة، وباعُوا الغالي والنّفيس، واختاروا الشّهادة، فوصلوا إلى ما يبتغونَ.


أحمد آل جمّاز الحسيني