أدب فتوى الدفاع المقدسة
الشّهيدُ السّعيدُ محمّد لعيبي رحيم السِّيلاويّ
2023/09/09

من صفاتِ الإنسانِ الطبيعيّة حبُّه الحياةَ وتمسّكه الكبير بها، ومن أجل المحافظة على هذه الحياة يعمَد بعضُ البشر على فعل أيِّ شيءٍ لبقائِه فيها، حتى لو كان ذلك على حساب دينهم ومعتقداتهم، وقد يتّخذُ البعضُ مِن ظُلم النّاس والعيش على قوتهم سبيلاً للبقاء في هذه الدّنيا الزائلة، لكن من جهةٍ أخرى نجدُ أنَّ البعض الآخر تذوبُ عندهم كلُّ مفردات حبِّ الدنيا؛ لأنَّهم وصلوا إلى حقيقتها ووقتيّتها، وأيقنُوا زوال كلِّ ملذَّاتها، وتمسّكوا بالآخرة، وأيقنوا بخلودها، وعرفوا أنَّ أسرعَ سبيلٍ لضمان الجنّة، والخلود في الدّنيا والآخرة، هو نيلُ الشّهادة، فاختاروا خلود الروح في كنف الله سبحانه وتعالى بإفناء الجسد، مطلِّقينَ الحياة كما طلّقها أئمّة أهل
البيت(عليهم السلام)، والأولياء والصّالحونَ.
وقدْ جسَّد هذا الاختيار الصّائب وهذه المعاني العظيمة الشّهيدُ (محمّد لعيبي رحيم السِّيلاويّ)، الذي كانَ - على الرُّغمِ من صِغَر سنِّه- يتمنّى الخلاصَ من معلومةٍ شغلتْ فكرَه كثيراً، وهي (عذابُ البَرزخ أو ضغطة القبر)، حتى صارت جزءاً من حياتِهِ، فقد روى أخوه الأكبر أنَّ الشّهيد السّعيد كان يتمنّى على الله أنْ ينال الشّهادةَ بطريقةٍ معيّنةٍ، وهي أنْ لا يبقى من جسده شيءٌ يُذكر؛ كي يتخلّصَ من ضغطةِ القبر – حسب رؤيته(رحمة الله) – وسبحان الله فقد حقّق اللهُ تعالى ما كان يتمنّاه ويطلبه.
ولد الشّهيد السّعيد محمّد عام (1997م-1417#)، وهو من سَكَنَة قرية مهيجران في قضاء أبي الخصيب، نشأ وترعرع في كنف عائلةٍ مؤمنةٍ متّصفةٍ بالجهاد، صِغارها وكِبارها، فقد شارك والد الشّهيد وأخوه الأكبر في الانتفاضة الشعبانيّة ضدَّ نظام الطاغية المقبور، وكانت صفة التصدّي للظلم والطغيان والدّفاع عن الأرض والعِرض من صفات هذه العائلة الكريمة، ومازالت على نهجها وعقيدتها في الولاء والتضحية، فهذا والد الشّهيد يكتبُ عنواناً آخَر للشّهادةِ، ويرسمُ صورةً رائعةً في التمسُّك بالعقيدة والولاء للدّين والوطن، إذْ نالَ تاجَ الفَخْر بشهادتِهِ في شهر الله، فَجَمَع بين طاعةِ الصِّيام والجهاد، وكانتْ شهادتُهُ بعد شهادةِ ولدِه بأحدَ عَشَرَ شهراً بتأريخ (14رمضان 1436هـ)، الموافق(2/ 7/2015م) في قاطع بيجي، وسنوردُ ترجمةً كاملةً للشّهيدِ السَّعيدِ لعيبي السّيلاويّ فيما بعد – بإذن الله-.
كان الشّهيدُ السّعيدُ محمّد - ومنذ صغره- يُحبُّ مساعدة الآخرينَ ممّن عاش معهم وخالطهم، وسنذكر موقفاً مرَّ به في صغره، وعلى الرّغم من بساطة الموقف، إلا إنَّه يحمل معانيَ كبيرةً وعظيمةً، إذْ كان له الأثرُ الواضحُ في حبِّ أصدقائه له (رحمه الله)، ففي أحد الأيّام وعندما كان الشّهيدُ في مدرسته الابتدائيّة، أراد معلّم الصّفِّ أنْ يعاقبَ أحد أصدقائِه لعدم تحضيره الدرس، وكان هذا الطالب يمرُّ بظرفٍ خاصٍّ منعه من أنْ يُحضِّر الدرس، وفي تلك اللَّحظة قام الشّهيدُ محمّد لعيبي وقال للمعلِّم بكلِّ جدِّيَّةٍ وثِقةٍ: (أستاذ لا تعاقبه وعاقبني بدلاً عنه)، دفاعاً عن صديقه، فهذا السّلوك الرائع والتصرّف التضحويّ، لا يصدر عن مجرّد طفلٍ أرادَ إثباتَ شجاعته لصديقه، بل صدر عن إنسانٍ يحمل بداخله حبَّ التضحية والفداء دفاعاً عمّن يُحبّ، وهو العنوان الذي جسّده عندما كبر.
وقبل أنْ تصدرَ فتوى المرجعيّة العُليا الخاصّة بالجهاد الكفائيّ لمواجهة التكفيريّين المغتصبينَ للأراضي العراقيّة، كان الشّهيدُ الشّابُّ محمّد لعيبي يخبر والده وإخوته بأنّه يريدُ الجهادَ مع صِغَر سنِّه، وبعد صدور فتوى سماحة آية الله العظمى السيِّد عليّ السيستانيّ (أدامَ اللهُ ظلّه) فرِحَ الشّهيدُ السَّعيدُ محمّدٌ، على الرُّغم من الألم الذي كان يعتصرُ قلبَه من أفعال النواصب التكفيريّينَ الدواعش، وهتكهم للعرض والأرض، وتهجير النّاس الآمنين، والقتل بأبشع الصّور تحت مسمّى الإسلام- وهو منهم بُراء- فأخبر والدَه قائلاً: (شنو الحجّة بعد، آنا بعد لازم التحق، وهذول جاي يقتلون، اليوم إذا إحنا ما انروحلهم باجر هم راح يجونة)، هذه كلمات الشّهيد أدرجناها وكتبناها بلهجتِهِ(رحمه الله) نفسها، التي تنمُّ عن وعيٍّ كبيرٍ، وتحمّلٍ أكبر للمسؤوليّة، على الرّغم من عمره الصّغير.
لم يكتفِ الشّهيد السّعيد برغبته في القتال فحسب، بل كان يحثّ أخوته وأبناء عمومته على الجهاد، وكان يقول لهم: (شنو الحجّة بعد؟)، ويقصد ما هو العذر من الذهاب إلى الجهاد ومواجهة الدواعش أعداء الإنسانيّة والدّين، حتى لبّى الأب وأولاده نداء المرجعيّة وما زالوا في ساحات الجهاد حتى كتابة هذا المقال.
التحقَ الشّهيدُ الشّابُّ محمّد لعيبي بأحد فصائل الحشد الشعبيّ، وتدرّب بمركز التدريب الخاصّ بهم، وتعلّم فنون القتال، وكان ينتظر بفارغ الصبر أنْ يلتحقَ بجبهات القتال لمقاتلة الأعداء وجهاً لوجه، لكن دون جدوى، فقد رفض القادة المسؤولون ذهابه لمقاتلة الأعداء كونه صغير السّنِّ، وقد آلمه هذا الأمر كثيراً، وهذا جعله يبحث عن جهات أُخَر تسمح له بالذهاب إلى الجبهات الأماميّة للقتال، كي يتمكّن من خوض القتال ومواجهة الأعداء، حتى وصل به الأمر بأنْ يتوسّل بقادته لدفعه الى المعركة، فتحقّقت غايتُه ونال مطلبَه.
استشهد محمّد لعيبي رحيم السِّيلاويّ بتأريخ (1/8/2014م)، الموافق للأوّل من شهر شوّال – أوّل أيّام عيد الفطر المبارك – من عام (1436هـ)، في جرف النصر في بدايات التحرير، ولم يتبقَّ من جسده الطاهر سوى قطعةٍ صغيرةٍ من وجهه، كانت دليلَ التعرّف عليه، ووسامَ شرفٍ يفتخر به أهلُه ويستذكرونه مدى الحياة، ولِتُروى قصّتُه جيلاً بعد جيل، وكانت وصيّتُه الأخيرة احترامَ الأمّ والأب، اللَّذينِ برضاهما يصل الواصلون ويخلُد الخالدونَ.
اللَّهُمَّ ارحَم شهداءَنا، واجعلهم شفعاءَ لذويهم ومحبِّيهم، واحشرهم مع محمّدٍ وآلِ محمّدٍ عليهم أفضل الصّلاة والسّلام، وانصر جندَ الحقّ، واخذُل المعتدين أعداء الإنسانيّة والدّين، بحقّ محمّدٍ وآله الطيّبينَ الطاهرينَ.

عامر قاسم الزّاير