أدب فتوى الدفاع المقدسة
الشهيد السعيد عُودة طالب جابر الحسّانيّ
2023/10/09

اختصَّ الله(عز وجل)نفسه بأسماءٍ اتّصفتْ بها ذاته المُقدَّسة، وهي تُظهر كمال الباري وجماله وقدرته وعظمته وعلمه تعالى ذكره، وهي مفاتيح الحجب والطريق الذي مِن خلاله يستطيع العبد أنْ يعرج بعبادته إلى ساحة المولى تعالى شأنه، وهي كثيرةٌ وتوقيفيَّةٌ، والمعلومُ منها تسعةٌ وتسعونَ اسماً، كما جاء في بعضِ الآثار والرّوايات ، وهناك أسماء ادَّخرها الله في مكنون علمه، ولم يُطلع عليها أحداً إلَّا مَن ارتضاه مِن خلقه؛ ولهذا ورد في الدُّعاء (اللُّهم إنّي اسألُك بأسمائك الحسنى ما علمتُ منها وما لم أعلم) ، وهي مظهرُ تجلِّيات ذات الحقِّ سبحانه؛ لذا ورد الحثُّ على لزوم الدّعاء بهذه الأسماء، فقد قال تعالى (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا( ، و هذا أدبٌ إلهيٌّ محمّديٌّ، إذْ إنَّ مِن حُسن الأدب في التخاطب والتعامل هو البدء بكلمات الاحترام والتكريم والثناء، ثُمَّ الولوج في أصل الموضوع المراد الحديث فيه.
ومن المؤكَّد أنَّ سادة هذا الفنِّ وأهله هم محمّدٌ وآلُ محمّدٍ(صلى الله عليه واله وسلم)، كيف لا وقد شهد الله لهم بعظيم الخُلُق والعلم والمعرفة، فهم مَن حَمِدَ الله حقَّ حَمدِه.
ومِن بين هذه الأسماء التي سمَّى اللهُ(عز وجل) بها نفسه، اسمُ (الشَّهيد)، وكما أنَّ لكلِّ اسم من أسمائه أثراً وخاصِّيّةً، فلاشكَّ أنَّ لكلِّ اسم منها معنىً مغايراً لغيره.
والشَّهيد في اللُّغة: على وزن فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول، على اختلاف التأويل في ذلك، فهو لفظٌ مشتركٌ؛ لذا جاء لعِدَّةِ معانٍ، منها: أنَّه اسمٌ مِن أسماء الله تعالى، وهو يعني الأمين في شهادته، وقيل الشَّهيد: أي الشَّاهدُ الذي لا يغيب عن علمه شيء. والشَّهيد في الاصطلاح: المقتولُ في سبيل الله، والجمع شُهداء، وقد عُلِّل سبب التسمية بأمورٍ كثيرةٍ، منها أنّ الشَّهيدَ إنَّما يُسمَّى شهيداً؛ لأنَّ الله وملائكته شهودٌ له بالجنَّة، وقيل سُمّوا شهداءَ؛ لأنَّهم ممَّن سيشهد يوم القيامة مع النبيّ(صلى الله عليه واله وسلم) على الأمم الخالية، قال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً( ، وقيل: لأنَّه لم يمتْ، وأنَّه شاهدٌ، أي حاضرٌ، وقيل: لأنَّ ملائكة الرّحمة تشهده، وقيل: لقيامه بشهادة الحقِّ في أمر الله حتَّى قُتل، وقيل: لأنَّه يشهد ما أعدَّه الله مِن الكرامةِ له بالقتل، وقيل غير ذلك، وكلُّها عِللٌ واردةٌ؛ لأنَّها وردتْ في الأحاديث الَّتي جاء فيها ما يُثبت فضلَ الشَّهيدِ والشّهادة، فاستحقّ الشُّهداء هذه المنزلة الرفيعة؛ لأنَّهم أدّوا ما عليهم على أتمِّ وجه، فقد حرثوا الأرض، وبذروا الحَبَّ، وسقوها بدمائهم الطاهرة، فها هو اليوم الزَّرعُ يشقُّ الصَّخر، وتُقطف الثِّمار، وتنجلي الظلمة، وتبنى الأوطان، وتعمّر البلدان، ومن هؤلاء الذين سقوا أرض العراق بدمائهم الشَّهيد السَّعيد (عودة طالب جابر الحسَّانيّ).
ولد الشَّهيد عودة طالب سنة 1966م، وكان مِن سَكَنة البصرة، قضاء شطِّ العرب منطقة الجزيرة تحديداً، وكان يمتهن مهنة صيد الأسماك، وقد عُرفَ عنه أنّه رجلٌ مؤمنٌ يخاف الله في دينه وعياله، وكان محبوباً بين جيرانه وأهل منطقته، إذْ يتواصل معهم، ويزورهم، ويطمأنُّ على أحوالهم وأوضاعهم.
والشَّهيد عودة أبٌ لثلاثة أولادٍ عكف على تربيتهم وتأديبهم بأخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، فقد كان يحثُّهم على المحافظة على الصّلاة والتقوى ومدِّ يَدِ العونِ لكلِّ النَّاس والمحتاجين.
وكانَ له علاقةٌ وثيقةٌ بأهل البيت(عليهم السلام)، فقد كان مواظباً على زيارة الإمام الحُسين(عليه السلام) في كلِّ وقت، وخصوصاً زيارة الأربعين، إذْ كان يمشي مسافاتٍ طويلةً سيراً على الأقدام، فضلاً عن بذله الأموال في النذور، ومناسبات أهل البيتِ(عليهم السلام)،.
وممَّا اتّصف به هذا المغوار الشّجاعةُ والتضحيةُ، فقد انتفض كالأسد مِن عرينه فور إعلان فتوى الجهاد الكفائيّ من سماحة آية الله العظمى السَّيِّد عليٍّ السيستانيِّ (دام ظلُّه الوارف)، وانطَلق مضحِّياً بالغالي والنفيس، إذْ اصطحبَ اثنين مِن أولاده معه، وانخرط في صفوف الحشد الشَّعبيّ البطل بعد أن دفع وصيَّته إلى زوجة ابنه الأكبر، ذاكراً فيها توصياته إلى ابنه الأكبر(حسين) بالحفاظ على أمِّه وإخوته وسَداد ما كان في ذِمَّته من دُيونٍ، وانطلق الشَّهيد بصحبة ولديه و ثُلَّةٍ مُؤمنةٍ من الرِّجال إلى ساحات الوغى، يُقاتلون وهم يحملون عقيدةً متجذِّرةً وراسخةً في عقولهم وقلوبهم.
شارك الشَّهيد في معارك ومناطق كثيرةٍ ومتفرِّقةٍ، مثل الزَّلَّاية والعوينات في تكريت، وغيرهما، وكان صُلبَ الإيمان، ومِن أوائل المبادرينَ للجهاد، صلْداً لا يهاب الموت، وممّن يُعتمد عليه في ميدان المواجهة؛ لذا أعطيَ سِلاح (الشّلكة) الذي لا يُعطى إلَّا لِمن يمتلك تلك المواصفات، فهو سلاحٌ ثقيلٌ فتَّاكٌ، وغالباً ما يكون حامله مكشوفاً للعدو.
حمل الشَّهيدُ في قلبه غَيرة العبَّاس(عليه السلام)وإيثاره، فقد قدَّم أولاده أمامَه يُقاتل جنباً إلى جنبٍ مع ولده الأكبر حُسين إلى آخر لحظةٍ من حياته، حتَّى نال وسام الشَّرف والسَّعادة في الدَّارين في آخر معركةٍ له في منطقة العوينات في تكريت بتأريخ (25/11/2014م)، إذْ أُصيب برصاصةٍ من أحد القنَّاصة الدواعش الأنجاس، فسقط رضوان الله عليه في حجر ابنه الأكبر، فاستشهد على الفور، فارتفعتْ روحه وهي تحمل البشرى من الباري(عز وجل) بالفوز بالجنَّة والرِّضوان، بارك الله لك الشّهادة، وتغمّد روحك الطَّاهرة بفسيح جِنانه، وحشرك اللهُ مع النبيّينَ والصّدِّيقينَ، والشُّهداءِ والصَّالحينَ، وحسُنَ أولئكَ رفيقاً.

علي حسين سعودي