أدب فتوى الدفاع المقدسة
الشّهيدُ السّعيدُ لعيبي رحيم ناصر السّيلاويّ
2023/10/15

«عَلَى الدُّنْيا بَعْدَكَ الْعَفا» : كلمةٌ قالها الإمامُ الحُسين بنُ علي(عليه السلام)عند فقده ولدَه شبيهَ رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم )، وهو معصوم لا يبلغ يقينَه إلا مَن كان معصوماً مثله، وقدْ ربطَ الله على قلبه، لكنَّه في يوم عاشوراء لمّا برز ولدُه عليٌّ الأكبرُ، نظر إليه نَظَرَ آيسٍ منه، وأرخى (عليه السلام)عينيه بالبكاء، ورفع شيبتَه الشريفة نحو السّماء، وقال : «أللّهُمَّ اشْهَدْ عَلى هؤلاء الْقَوْمِ! فَقَدْ بَرَزَ إليهم غُلامٌ أَشْبَهُ النّاسِ خَلْقاً وَخُلُقاً وَمَنْطِقاً بِرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ(صلى الله عليه واله وسلم )، ، وكُنّا إِذا اشْتَقْنا إلى وَجْهِ رَسُولِكَ، نَظَرْنا إلى وَجْهِهِ، أللّهُمَّ فَامْنَعْهُمْ بَرَكاتِ الأَرْضِ، وفَرِّقْهُمْ تَفْريقاً، وَمَزِّقْهُمْ تَمْزيقاً، وَاجْعَلْهُمْ طَرائِقَ قِدَداً، وَلا تُرْضِ الْوُلاةَ عَنْهُمْ أَبَداً؛ فإنّهم دَعَوْنا لِيَنْصُرُونا، ثُمَّ عَدَوا عَلَيْنا يُقاتِلوُننا» .
ولمّا عرجت روحُ (عليٍّ الأكبرِ) إلى بارئها ومعشوقها، نادى(عليه السلام) بأعلى صوته: «يا أبتاه، هذا جدّي رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم)، وقدْ سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأُ بعدَها أبداً، وهو يقول لك: العجلَ، العجلَ؛ فإنَّ لكَ كأساً مذخورةً ، فصاح الحُسين(عليه السلام): قَتَلَ اللهُ قَوْماً قَتَلوُكَ، يا بُنَيَّ، ما أَجْرَأَهُمْ عَلَى اللهِ، وَعَلَى انْتِهاكَ حُرْمَةِ رَسُولِ اللهِ، عَلَى الدُّنْيا بَعْدَكَ الْعَفا» .
إنَّ فَقْدَ الولد العزيز مصيبةٌ عظمى مؤلمة محزنة، وإنْ كان الوالد معصوماً، ولعلَّ الإمامَ(عليه السلام) أراد أن يعطيَ مفهوماً -بل عدّة مفاهيم- بكلامه الشريف المتقدّم الذكر، ومحلُّ الغرض، هو أنّ الولدَ ثمرةُ الفؤاد، ولبُّ الحشى، ولكنّه قدَّمه فداءً للدين، وضحّى به من أجله قبل أنْ يضحّي(عليه السلام) بنفسه، وهو يقول حين ذهب إلى المعركة لنيل الشّهادة: «أمضي على دينِ النبيّ» ، وقال ولدُه الشّهيد (علي الأكبر(عليه السلام): مقولتَه الخالدة أثناء مسير آل الله إلى كربلاء مخاطباً أباه حينما سأله عن سبب استرجاعه بعد إغفاءته، فلمّا جاء الجواب من سيّد الشّهداء(عليه السلام)، قال لأبيه: «لا نبالي بالموت ما دُمنا على الحقّ» .
أئمّتنا الأطهار كلُّهم ازدَرَوا الدّنيا، واستهانوا بالحياة رغبةً في ثواب اللهِ تعالى، ومن أجل هذا نحن ندينُ لهم بالولاء، فهم القدوة والأُسوة، وهم المنهج القويم والصّراط المستقيم، الذي انتهجه شيعتهم بعدهم، فيقدّمون أبناءهم قرباناً لهذا الدين وكلّهم اطمئنان بمصيرهم، لكنّ الحسرة والحزن إنّما هما على فقدان فلذات الأكباد، وهما مشروعان ما داما لا يشتملان على ما يُسخط الربّ.
وهذا شهيدٌ مِن شيعة عليٍّ والحُسين(عليه السلام) يقدّم ولدَه فداءً للدّين، ثمّ ينعاه بلسان حال أمّه، ويبكيه، ولكن، خلسةً، ثمّ يطلب من سائر أولاده أن يُقِرّوا عينيه وعينَي أمّهم بفداء أنفسهم للدّين، وتبعاً لأئمّة الحقّ في حماية شريعة سيّد المرسلين، هذا ما أوصى به في وصيّته، وهي مسجّلة بتسجيل صوتيّ مصوَّر وكتبي يتلوها أحد أولاده، ونصّ كلامه: «إذا أراد أولادها أن يبيِّضوا وجهها، فعليهم الذهاب مع القوّات المسلّحة ومقاتلة الأعداء»، ثمّ يحشِّم الشباب ويذكِّرهم بفتوى المرجع الأعلى في وجوب الدّفاع عن الدّين والعرض، ويفدي ولده الشّهيد للدّين.
ولم يكتف الأب بذلك، بل التحق بنفسه بلواء عليّ الأكبر(عليه السلام)؛ ليجود بنفسه شهيداً، إنّه والد الشّهيد (محمّد لعيبي السّيلاويّ)، الذي وُثِّق في الجزء الأوّل من هذا الكتاب (شهداء العقيدة والوطن)، ووعدنا فيه أنْ نوثّق والده في الجزء الثاني، فهو الشّهيدُ السّعيدُ (لعيبي رحيم ناصر السّيلاويّ)، المولود في (البصرة- قضاء أبي الخصيب- منطقة شتَيّة) عام (1386هـ/1966م)، متزوّج من زوجتين، وله أولاد تسعة بين ذكر وأنثى، عمل كاسباً في محلٍّ لتصنيع الموادّ المنزليّة من الألمنيوم، وكانت بداية عمله في قضاء (الزبير)، فاغتنم فرصةَ الخير هذه، فواظب على الحضور في المسجد الأعظم (مسجد المرحوم الشويلىّ) لأداء صلاة الجماعة، واقتباس النور من كلمات أهل البيت(عليهم السلام)، التي كان يصدح بها حملةُ العلم من على منبر الكلمة في هذا المسجد المبارك.
لقدْ تركت تلك الكلماتُ المباركةُ الأثرَ البالغ في نفسه؛ فهو رجل حسينيّ سائر على نهج سيّد الشّهداء (عليهم السلام) في الالتزام بأوامر أهل الذكر وإرشاداتهم، وأُثر عنه أنّه كان وجيهاً بين الناس، يسعى في إصلاح ذات بينهم، ونشر الأخلاق الفاضلة، وكان خادماً من خدّام أهل البيت (عليهم السلام)؛ فقدْ سجّل اسمه في سجل قرّاء العزاء على مصائبهم (عليهم السلام)، وله قصيدة مصوّرة بصوته يقرأها على مسامع المجاهدين في الجبهة.
التحق(رحمه الله) بلواء التضحية والفداء علي الأكبر (عليه السلام) بعد شهادة ولده، وهو رجل صاحب دينٍ وبدنٍ قويم، له هيبة، كان قدْ تدرّب على أنواع السّلاح المختلفة؛ فهو من ضمن القوّات الخاصّة، وشارك في عدّة معارك، منها: النخيب، وبيجي، التي كانت فيها شهادته بعد أحد عشر شهراً من شهادة ولده، وقدْ أخبر أحدَ وُلدِه أنّه لن يعودَ هذه المرّة، إمّا أنْ يبقى ويستمرّ في نصر الله ودينه، وإمّا أنْ يُستشهد ويلتحق بركب الشّهداء.
وقدْ سمع الله دعوته، فمنَّ عليه بالشّهادة على أثر إصابة قنّاص؛ إذْ كانت هناك فتحة بين منزلين يترصّدها الدواعش، فأشار الشّهيد على رفاقه أنْ يبنوا ساتراً لهذا المكان، فوضعَ حائلاً من القماش، لكنّ القنّاص ترصّده فأصابه في المكان نفسه، وقدْ سعى إليه أحدُ رفاقه ليسعفه، وهو الشّهيد (جابر صندل (رحمه الله)، فأصابه القنّاص نفسه، واستشهد، وقدْ كانت شهادتهما في الرابع عشر من شهر رمضان من عام (1437هـ)، الموافق (2/7/2015م).
وقدْ أوصى (رحمه الله) بعدّة وصايا، منها: رعايةُ أيتام الشّهداء وعوائلِهم، وكذلك عوائلُ المجاهدين، وأنْ لا تخلوَ الجبهة من أولاده، فرحمة الله عليه، وسلامٌ عليه، وعلى الشّهداء والّصدّيقين كافّة.