جثمان على الساتر
2025/05/26
بقلم: -أسعد عبد الرضا الحلفي
هناك حيث الهواء العليل، وارتفاع النخيل، قد اخضرت القلوب وتسامت الارواح بعقيدة الحق وصدق الولاء لمرجع الامة وحامل راية النصر، صاحب فتوى الدفاع التي انقذت وطناً وأوطانا... إنها حكاية شهيد لم تعد بعد جثته لأمه وأبيه، بل بقيت تشهد سوح النزال وكأنها في احدى رياض الجنان..
هناك حيث كان يعيش الشهيد أينعت تلك القلوب كما اينعت ثمار تلك الارض، فكان ثمار ارواحها شهادة..
فما اعظم ارواحهم إذ عانقت سماء الابدية وارتقت نحو السرمدية، فنالوا صحائفهم بايمناهم على طبق من نور..
أحد اولئك الصفوة كان الشهيد يحيى ناجح مطر والذي كان من خيرة شباب قضاء ابي الخصيب، استشهد في النباعي بتاريخ ٢٠١٤/٧/٢١ عن عمر يناهز اثنتين وعشرين سنة، فتعالوا لنعرف من هذا
الشهيد البطل، من لسان والده وأخوته ومقربيه خلال رحلتنا التوثيقية مع عائلة الشهيد. كنا قد التقينا بوالد الشهيد (يحيى) فبدأ يحدثنا وما اجمل بدايته حيث قال: انا والد الشهيد الذي التحق بساحات الشرف ملبياً عظيم زمانه حتى نال وسام الشهادة في اول وجبة.
صار الأب يواصل حديثه عن ولده، وعبرة حزن الفراق تختلج في صدره حين يصف اخلاقه قائلاً: لقد كان ولدي كريم الطباع جميل الاخلاق، باراً بي وبوالدته، وكان لا يعصي لها امراً ولا يرضى بأن أهضم او أظلم، فضلاً عن معونته المستمرة لأقربائه الذين لم يروا منه سوى الخير.
وماذا عساي ان اقول فيمن يلبي نداء المرجعية ؟ فلقد اختاره الله لعظيم عطاياه، واختصه بالشهادة التي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم! ولم يكن الشهيد عاطلاً، بل كان ذا همة وعمل، وأحد المجاهدين في كسب عيشه، لكنه باع كل شيء واشترى الشهادة.
لقد كان لهذا الوالد الصابر المؤمن ولدان في ساحات الجهاد، وكانا معاً في المعركة نفسها التي استشهد فيها الشجاع (يحيى ناجح) حيث اصيب خلال تطهير احد المنازل، وتفاجؤوا عندما اكتشفوا أن المنزل كان مفخخاً بالمتفجرات، بعدها تمت محاصرته داخل المنزل وهو مصاب ولم يستطع اخوه ان يصل إليه، والله در نفسيهما من نفوس أبية! ولقد سألنا والدهما عن امنيته فما كان جوابه؟!
اجاب قائلاً بغصة شائق:
اتمنى ان التحق بولدي شهيداً».
وكأنه قد نظر في قلوب الناس حين خاطبهم:
ادعو اخوتي ان لا يخذلوا مرجعيتهم التي لم تنطق سوى الحق، وتلك ميادين الجهاد تنتظر ان يملؤوها بحضورهم، وينالوا احدى الحسنيين (أما النصر او الشهادة).
نعم، فلقد كان كالجبل في صبره والده.
وامثاله درر قل في الزمان مثيلهم.
له موقف ينحني عنده التاريخ، وتمنيت ان يراه العالم ويسمع صوته عندما نظر الينا وقال (سميته
يحيى ليحيا).
فلتقر عينك ايها الشيخ الوقور فولدك الحي قد عانق الخلد وضمن الابدية.
وما اجملها من شهادة، ففي ليلة القدر زفوا لأبيه الخبر، لكنه لم ينكسر بل كان قوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون) متأسياً بسيد الشهداء .
كيف لا وكربلاء مدرسته ؟ فتعلم الصبر من صبر ذاك الغريب المظلوم..
احسست بأن الفرح والحزن قد امتزجا في قلب والد الشهيد عندما سمعته يقول: لقد سلك ولدي طريق الحسين فكيف ارد هذا الشرف!
وماذا قدمت انا قياساً بما قدمه سيد كربلاء؟ إذ قدّم نفسه ورضيعه وكلّ أولاده وأحبته وأصحابه؛ لينحروا جميعاً على معبد التضحيات، ويسقوا بماء دمهم شجرة الاسلام، حتى ولو كان الثمن أن ترفع رؤوسهم على أسنة الرماح.
لقد كان لأخيه الأكبر خالد جمرُ أسى في الفؤاد تفضحه تقاسيم ذاك الوجه الحزين..
قال: كيف لا يطيع اخي مرجعه ويلبي نداءه؟ وقد رباه ابوان لم يعص لهما امراً حتى نال الشهادة في شهر هو احب الشهور الى الله
لقد كان ابوه واخوته على ابواب الاهتمام بترتيب خطوات زفافه، ولم يعرفوا انه كان على موعد مع الشهادة وحور الجنان.
رفيق جهاده وابن خالته ( علي عبد السلام الذي كان من الملتحقين معه للجهاد يروي لنا حكاية عروج روح الشهيد (يحيى) نحو آفاق الشهادة..
لنراه كم عشق الجهاد في سبيل الله ومقدساته وحب الوطن وصون الحرائر... اخبرنا بأن الشهيد لم ينتظر يوماً واحداً بعد ان سمع بهاتف داعي الله للجهاد، حتى التحق مع الحشود الطائعة وبسمة السعادة على شفاههم...
كان الشهيد متلهفاً لخوض الحرب في الميادين، وشوقه كشوق عاشق لمعشوقته إذ اصر على دخول المعارك ولم يدخل قبلها معركة قط...
تلك شجاعة من طلقوا الدنيا وهم في عز زهوها، وبعمر رياحينها..
هكذا كنا ننتقل بين احباء الشهيد يحيى وبينما هم يخبروننا عن عزيزهم نشاهد العيون دامعة، واخرى مغرورقة، وكل ذكرياته عالقة في اذهان من كانوا يعرفونه حيث صار بعضهم يشير الى مكان اعتاد ان يجلس فيه، وآخر يدلنا على ساحة كان يلعب فيها كرة القدم مع اصحابه، وآخر من التقينا به اخوه الذي كان حاضراً في ذات المعركة التي استشهد بها (يحيى).
لقد كان لأخ الشهيد الذي رافقه في ساحات المعارك حديث المآسي، إذ يروي حكاية عالق بين
خسارة روح واحدة أو خسارة روحين، وبين الاثنين عبابٌ من الصعاب وقسوة الاختيار... يُكلم اخاه في الهاتف وأنين اصابته يُقطَّعُ حشاه، إذ لا يستطيع ان يصل إليه فبينه وبين اخيه عدو
يتربص غفلته ليقع الاخر في مصيدته لينحرهما معاً.
وهكذا استشهد البطل الغيور يحيى ناجح مطر، وبقي جثمانه الدامي في سوح الوغى، وبعد فترة من الزمن تم تحرير تلك الارض بسواعد المجاهدين الشجعان، ولكن لم يُعثر على جثمان الشهيد وبقي مكانه مجهولاً حتى اليوم.
فالسلام على الشهيد يحيى وعلى جميع الشهداء الابرار.